فم مفتوح .. فم مغلق

بكاء إمرأة

زيد الحلي

في صباحٍ اعتيادي، وأنا أستقل إحدى حافلات النقل العمومي في بغداد، شهدت لحظة اختلطت فيها الذاكرة بالوجع ، عند مرورنا على جسر السنك، انطلقت دموع امرأة كبيرة في السن كانت جالسة قربي ، لم تستطع أن تحبس حزنها ، وهي ترى نهر دجلة وقد انحسر ماؤه حتى بدت أرضيته اليابسة، بينما ما تبقى من الماء يسير الهوينا مثل رجل أنهكته السنون والعلل. لم يكن بكاؤها مجرد انفعال عابر، بل كان نحيباً على نهر ارتبط بتاريخنا وحياتنا وذاكرتنا الجمعية، على نهر كان رمزاً للخصب والكرامة، فإذا به اليوم يعكس وجهاً آخر من الإهمال والخذلان. إنّ صورة دجلة ، ومؤكد ان شقيقه نهر الفرات كذلك ، بهذا الحال ليست مجرد مشهد طبيعي، بل هي مؤشر خطير على أزمة وطنية، تهدد حاضر العراق ومستقبله. فهذا النهر الذي تغنّى به الشعراء وافتخر به الأجداد، لم يعد يجري كما اعتدنا، وأضحى يئن تحت وطأة سياسات مائية خارجية مجحفة، وإدارة داخلية ضعيفة لم تحسن صيانة شريان الحياة ولا الدفاع عنه في المحافل الإقليمية والدولية.

حين تبكي امرأة مسنّة أمام دجلة، فهي لا تبكي الماء وحده، بل تبكي تاريخاً طويلاً من الذكريات، ومصائر أجيال قادمة قد تجد نفسها بلا ماء، بلا زرع، بلا حياة. وهي رسالة بالغة الرمزية، ينبغي قراءتها بجدية، لأن الشعب بدأ يلمس الكارثة بعينه لا بخيال الصحف وتقارير الفضائيات  .

إن ذلك البكاء ، يجب أن يتحول إلى بكاء كل العراقيين على مصير نهرهم، وإلى صرخة مطالبة جماعية للحكومة والبرلمان، بأن يضعوا قضية المياه في رأس أولوياتهم، قبل أن نصحو يوماً على نهر جاف، ومجتمع متعطش، وحضارة فقدت آخر رموز حياتها.

لقد كان نهر دجلة يوماً ما يرمز إلى العراق، فإذا فقدناه فقدنا صورة الوطن ذاته. فليكن بكاء تلك المرأة العجوز جرس إنذار، ونداء يوقظ الضمائر الغافية، فالحكومة قادرة، إن أرادت، على أن تحيي النهر من جديد، وأن تكتب فصلاً جديداً من الوفاء لدجلة والفرات، ومن الوفاء لشعب ينتظر الماء كما ينتظر الحياة.

إنقاذ دجلة ليس ترفاً ولا شعاراً عاطفياً، بل هو واجب وطني عاجل، لأن العراق بلا دجلة لا معنى له، كما أن بغداد بلا نهرها، كقلب بلا نبض. فلتنهض الإرادة السياسية قبل أن يشيّع العراقيون نهرهم كما يُشيّع اليتيم آخر سند في حياته.

Z_alhilly@yahoo.com