العمر ظلّ يتناقص
مروان صباح الدانوك
يمضي العمر كما يمضي النهر إلى مصبّه، لا ينتظر أحداً ولا يلتفت إلى الوراء، كلما حاولنا أن نمسك لحظة من لحظاته، أفلتت من بين أصابعنا كالماء، وتركت على الكفّ رطوبة ذكرى عابرة.كنتُ أظن أن ثلاثين عاماً هي زمن طويل، لكنني وجدتُها ومضة، لحظة غفلة، وخطوة في طريق لا نعرف أين ينتهي، في الطفولة، كان اليوم يمتدّ كعمر، وفي الشباب، أصبح العام يطوي أيامه بسرعة مدهشة، واليوم صارت السنوات تتساقط كما تتساقط أوراق الخريف، بهدوء لكن بلا رجعة.كل عام يرحل، يأخذ معه شيئاً من ملامحنا، شيئاً من أحلامنا، ويترك لنا خطوطاً رفيعة على وجوهنا وطبقات أعمق من الحكايات في صدورنا، نحن لا نشيخ فجأة، بل نتغير بهدوء، كما يتغير لون البحر مع كل غروب. والمفارقة أن داخلنا قد يظل شاباً يركض خلف الحياة، بينما أجسادنا تعترف، شيئاً فشيئاً، بسطوة الزمن.لقد أدركت أن العمر لا يقاس بعدد السنين التي نطفئها في أعياد الميلاد، بل بما نملأه فيها من أثر، من محبة، من كلمات صادقة، من عمل نافع، في النهاية، لا أحد يسأل كم عشت، بل ماذا فعلت بما عشت، وإن كنا لا نملك أن نوقف عقارب الساعة، فإننا نملك أن نجعل كل نبضة من نبضاتنا شهادة على أننا عشنا حقاً، ولم نكن مجرد عابرين في كتاب الزمن.أحياناً، حين أسترجع الماضي، أشعر وكأن الأيام كانت تركض وأنا ألهو على جانب الطريق، لم أكن أتصور أنني سأقف يوماً وألتفت خلفي فلا أرى سوى أثر أقدام على رمال جرفها المدّ، واليوم، وأنا أقترب من محطة جديدة في رحلتي، أعلم أن الطريق ما زال أمامه منعطفات، لكنني أيضاً أعلم أن السرعة التي يمضي بها العمر تجعل كل لحظة كنزاً لا يعوّض.لهذا، قررت أن أعيش ما تبقى من عمري وكأنني أعيش للمرة الأولى، أن أضحك أكثر، وأحب أكثر، وأسامح أكثر، وأكتب أكثر، أن أترك أثراً في قلوب من يعرفونني، حتى إذا جاء اليوم الذي أرحل فيه، يبقى اسمي محفوراً في ذاكرة من مررت بهم، ولو كحرف صغير في صفحة كبيرة.
وهكذا، كلما أطفأت شمعة، أيقنت أن النور الحقيقي ليس في الشمعة، بل في ما أضأناه في قلوب من حولنا. والزمن، مهما أسرع، لا يستطيع أن يطفئ ضوء الحب، ولا أن يمحو أثر الكلمة الصادقة. وما العمر إلا ظلّ يتناقص، لكن بعض الظلال تظل أطول من أصحابها.كتب في بغداد في آخر يوم لي من عامي الثاني والثلاثين.