مرضى الرشاد .. إنسانية تحرج العقلاء
دعاء يوسف
منذ اللحظة الأولى التي تسلّط فيها الضوء على مستشفى الرشاد للأمراض النفسية في بغداد، بدت القضية أكبر من مجرد مؤسسة صحية تفتقر إلى الخدمات. كانت المشاهد المسربة صادمة: تردّي المعيشة، ضعف البنى التحتية، غياب الرعاية، وتجاوزات لا تقترب حتى من معايير حقوق الإنسان. مشاهد جعلت كثيرين يقارنون بين واقع المرضى هناك وبين حقوق الحيوانات في دول أخرى مقارنة قاسية، لكنها واقعية. ومع أن الجميع ركّز آنذاك على سوء الخدمات، إلا أن ما لفت انتباهي خلال متابعة طويلة وصامتة، لم يكن جانب الإهمال فقط.. الوجع الحقيقي كان في الإنسان نفسه. فأغلب المرضى الذين ظهروا في اللقاءات—خصوصًا في حوارات الإعلامي علي الخالدي—ليسوا أشخاصًا هامشيين كما يتصور المجتمع. كثير منهم حملوا شهادات معتبرة، وبعضهم شغل مناصب قوية في الدولة، وآخرون كانوا جزءًا مهمًا من المجتمع قبل أن تغيّر الظروف والصدمة والخذلان مسار حياتهم. والخذلان هنا لا يأتي من الدولة وحدها، بل من الأهل أولا.. القصة المؤلمة أن الكثير ممن انتهى بهم الحال داخل الرشاد، وُجدوا هناك بسبب تخلّي أقرب الناس عنهم، تحت وطأة الضغوط أو الخوف من الوصمة أو العجز عن التعامل مع المرض النفسي. ومع هذا كله، لم يكن هذا الجانب هو الأكثر تأثيرًا في داخلي.
ما هزّ القلب فعلا هو أن أحدًا منهم لم يكن حاقدًا.
وعندما يُسألون: شنو تحب توصل رسالة لأهلك؟
يكون الجواب واحدًا تقريبًا: أسلّم عليهم وأكَول مشتاق لكم.
وحين يأتي السؤال الأصعب: مسامحيهم؟
يجيبون ببساطة طفل وبصفاء قديس: إي نسامح.
هذه ليست مجرد استجابات عاطفية.
هذه إنسانية نادرة لا يحملها كثير من الذين يصفهم المجتمع بـالعقلاء.
إنسانية تفضح حقيقة موجعة: أن من يُشكّك الناس بقدراته العقلية، قد يكون أطيب وأرقّ وأصفى قلبًا ممن يجلّس نفسه حكمًا على الآخرين. كما يظهر لدى هؤلاء المرضى إيمان عميق برب العالمين، إيمان لا يتزعزع رغم القسوة ورغم العزلة.. إيمان يجعلهم يتصالحون مع واقعهم بطريقة تعجز عنها نفوس كثيرة تدّعي القوة والاستقرار.
وفي النهاية، يتضح أن قضية مستشفى الرشاد ليست فقط عن خدمات منهارة أو بيئة صحية مفقودة. هي اختبار إنساني لمجتمع بكامله: كيف يتعامل مع أضعف أفراده؟ كيف ينظر للمرض النفسي؟ وكيف يسمح بأن يتحول الإنسان إلى ملف مهمل على سرير صدئ؟
إن الرشاد لا يكشف عن انهيار مؤسسة فقط، بل يكشف عن قيمة عظيمة وسط كل هذا الظلام:
إنسانية المرضى التي تعلو فوق الجرح، وتسامحهم الذي يفضح قسوة العالم، وإيمانهم الذي يبقى حيًا مهما خذلتهم الحياة.