الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
واقع البرامج السياسية بين التحييز والمهنية

بواسطة azzaman

واقع البرامج السياسية بين التحييز والمهنية

طارق جوهر سارمه مي

 

تؤدي البرامج الحوارية دورًا محوريًا في الإعلام السياسي، إذ تُعدّ منبرًا مهمًا لتبادل الآراء، وكشف الحقائق، وتعزيز الوعي السياسي لدى الجمهور. ويقع على عاتق مقدّم البرنامج مسؤولية كبيرة في إدارة الحوار بمهنية، وضبط إيقاع النقاش، وإعطاء الفرصة المتساوية لكل الضيوف لعرض وجهات نظرهم. فالمقدم الناجح لا يفرض قناعاته، بل يطرح الأسئلة بذكاء، ويوجّه النقاش نحو الفهم والتحليل، لا نحو الإثارة والانفعال. ومن هنا، تصبح مهارات المقدم وخلفيته المعرفية وأخلاقياته عناصر حاسمة في نجاح البرنامج وتأثيره.

لم تعد البرامج السياسية في العراق مجرد منصات للحوار وتبادل الآراء، بل تحوّلت في كثير من الأحيان إلى ساحات صراع، تتعالى فيها الاتهامات، ويُعامل الضيف كمُتهم لا كشريك في النقاش. هذا التحوّل يثير تساؤلات جدية حول دور الإعلام السياسي، وأخلاقياته، وحدوده المهنية.

في هذه البرامج، كثيرًا ما يتحول مقدّم البرنامج إلى ما يشبه «القاضي»، يتدخل بشكل مباشر، يوجه التهم، ويقاطع الضيف خصوصًا إذا كان يمثل تيارًا سياسيًا مخالفًا لنهج القناة. وغالبًا ما يُطلب من الضيف الدفاع عن نفسه بدل عرض أفكاره، ما يحوّل النقاش إلى محكمة لا تراعي قواعد العدالة ولا آداب الحوار.

ظواهر سلبية

بعض مقدمي البرامج يذهبون إلى استخدام لغة هجومية ومهينة، تصل إلى طرد الضيف على الهواء. مثل هذه السلوكيات تفرّغ العمل الإعلامي من معناه الأخلاقي، وتحوّله إلى منصة للتشهير بدل أن يكون منبرًا لتبادل الرأي باحترام وتوازن. من الظواهر السلبية المتكررة أيضًا، استغلال زلات اللسان أو لحظات الانفعال من قبل بعض القنوات أو مقدمي البرامج، حيث تُقتطع أجزاء مجتزأة من حديث الضيف وتُنشر لاحقًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي خارج سياقها، ما يؤدي إلى تشويه متعمّد لصورة الضيف. الهدف في الغالب ليس توضيح موقفه، بل تحقيق نسب مشاهدة مرتفعة على حساب المصداقية والمهنية. تتحمل المؤسسات الإعلامية مسؤولية كبيرة في الحد من هذه التجاوزات، من خلال الالتزام بمواثيق الشرف، وتجنّب استخدام الزلات الفردية كأداة للإساءة أو الابتزاز السياسي.

المقلق أن كثيرًا من هذه البرامج تفقد وظيفتها التحليلية، وتتحوّل إلى منصات للتحريض والانفعال. تغيب الأرقام الدقيقة والتحليل العميق، وتحضر بدلاً منها الشعارات والتعبئة العاطفية. بدلاً من الإسهام في فهم الأزمات، تغذّي هذه البرامج الانقسام وتُكرّس عقلية الاصطفاف الطائفي والحزبي، ما يفتح المجال أمام خطاب الكراهية. خطاب الكراهية هو أخطر ما يواجه الإعلام السياسي، حين يُحرّض الضيف أو المقدّم ضد طائفة أو قومية أو تيار فكري، لا بهدف النقاش، بل بدافع التحريض والإقصاء. مثل هذا الخطاب لا يهدد فقط التعايش المجتمعي، بل يُمهّد لبيئة عنف وتمييز، تبدأ بالإساءة اللفظية وقد تنتهي بالعنف المادي. لآن الخطاب الإعلامي في العراق غالبًا ما يُشكَّل وفق مصالح الممول أو الجهة المالكة، ما يجعله صدى لتلك المصالح، لا صوتًا حقيقيًا للرأي العام. رغم إصدار هيئة الإعلام والاتصالات العراقية توجيهات عديدة تطالب وسائل الإعلام بضبط الأداء المهني وتجنب الإساءات اللفظية والشخصنة، إلا أن غياب آليات فعالة للرقابة والتنفيذ يجعل من هذه التوجيهات أقرب إلى النصائح غير الملزمة، في ظل واقع يطغى عليه منطق الإثارة والانفعال. من جانب آخر، لا يمكن تجاهل مسؤولية بعض الضيوف، الذين يلجأون إلى الصراخ والتجريح والتهجّم الشخصي، فيسهمون في فوضى البرامج، ويبتعدون عن أصول النقاش الحضاري. هؤلاء بحاجة إلى تدريب وتأهيل في فنون الحوار، ليتمكنوا من مخاطبة العقول بدل اللعب على الانفعالات. لا يمكن إصلاح هذا المشهد عبر القوانين وحدها، بل لا بد من إصلاح داخلي يبدأ من ضمير الإعلاميين، ووعي الجمهور، وغرف إعداد البرامج نفسها. الإعلام المهني لا يقوم على تسويق الانقسام، بل على احترام التعددية، وتمكين الأصوات المختلفة من التعبيرعن نفسها بشكل متساوٍ ومسؤول. نحتاج إلى إعلام عراقي حديث، يزاوج بين الحرية والمعرفة، ويضع المهنية فوق الولاء السياسي، ويجعل من الحوار قيمة أصيلة، لا أداة للتشهير أو الترهيب.

 

 

 


مشاهدات 89
الكاتب طارق جوهر سارمه مي
أضيف 2025/08/06 - 2:51 PM
آخر تحديث 2025/08/07 - 6:31 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 174 الشهر 4613 الكلي 11399699
الوقت الآن
الخميس 2025/8/7 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير