الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
قوّادو الكلمة وباعة الوهم: حين يصبح الإبداع طعنة في خاصرة صاحبه

بواسطة azzaman

قوّادو الكلمة وباعة الوهم: حين يصبح الإبداع طعنة في خاصرة صاحبه

حامد الضبياني

 

في مشهد تتقاطع فيه أنفاس القصائد مع بخار فناجين القهوة الباردة، وفي صالات ينتصب فيها النفاق كديكور أساسي للعرض، يمشي الأدباء والفنانون كتلاميذ مشاكسين في مدرسة للأنانية، يتبادلون التحايا المزيفة والابتسامات المسروقة من وجوه مهرّجة، وكلٌّ منهم يخفي في جيبه خنجرًا نقديًا لا ليذبح الخطأ، بل ليصوّب الطعنة إلى خاصرة نجاح خصمه، كأنهم في سوق لا تُعرض فيه البضائع بقدر ما تُعرض فيه الرؤوس للجزّ بسيف الحسد.ما إن تكتب نصًا، وتؤمن به كمن يحضن رضيع اللغة للمرة الأولى، حتى يتسلل إليك من الخلف شاعرٌ آخر أو فنانٌ لا يحبك إلا إذا صمتَّ للأبد، يقرأ النص لا بصفاء القلب، بل بعدسة مكبّرة يبحث فيها عن شاردة أو واردة، عن نقطة فوق حرف قد انزلقت سهوًا، ليقول لاحقًا بكل وقاحة: "أنا من صححت له نصه!"، وكأن الأدب أصبح مستنقعًا ينتظر فيه الذباب فرصة السقوط ليعلن انتصاره البيولوجي على الجمال.إنه زمن غريب، حيث لا أحد ينصح أحدًا إلا وفي قلبه جرعة سمّ، ولا أحد يصغي إلا ليخزن الردّ في صدره حتى تحين ساعة المنازلة، والويل كل الويل لمن يظن أن النقد من أجل الإصلاح، فكل من تجرأ أن يقول لصاحبه: "هنا كان يمكن أن تكون أبلغ"، سيُجابَه بوجه مكفهر، وبنبرة تنبع من وادي الكبرياء: "هل تدري من أنا؟ أنا من علّق أول قافية على باب الكعبة، وأنا من اخترع القيثارة قبل سومر!"الكل يظن نفسه سيبويه العصر، وناقدًا لا يُشق له غبار، وعمودًا من أعمدة الفن، حتى وإن لم ينجز إلا ديوانًا لم يقرأه أحد، أو لوحة لم تُعرض إلا في هاتفه المحمول، ثم إذا غادرت مجلسهم، بدأوا يتهامسون كالباعة في سوق مظلم: "هو فاشل، لا يملك أي موهبة، وكل نجاحه مجاملة من فلان أو إعلان في موقع مغمور."أما الفئة الأشد خبثًا، فهي تلك التي تتقن فنّ "الدعابة السامة"، تراك سعيدًا بنصك، فيأتيك أحدهم مبتسمًا، يرسل لك رابطًا في الخاص: "أليست هذه الجملة مشابهة لما كتبه فلان عام 1987؟" وكأنه شرلوك هولمز الأدب، لا لحرصه على حقوق الملكية الفكرية، بل لأنه يريد أن يقول لك بلسان مزيف: "أنت مجرد مقتبس محترف، وأنا أذكى منك، وأخبث."

وهنا المصيبة الكبرى، أن هذا النموذج من الأدباء والمثقفين المتنطّعين، هم اليوم نجوم المشهد الثقافي، يتصدّرون المنصّات، ويجلسون في الصفوف الأولى للمهرجانات، لا لأنهم أصحاب مشاريع، بل لأنهم أتقنوا التملّق كفن، والتسويق كحرفة، واستبدلوا الريشة والقصيدة بحقيبة علاقات عامّة مملوءة بالأرقام والأسماء، وصاروا سماسرة في سوق الثقافة، يبيعون ضمائرهم بثمن حضور في ملتقى عربي، أو دعوة إلى أمسية ملوّنة بالصور على إنستغرام.منهم من يتسلّق على أكتاف الطيبين، ويأكل من عرق الموهوبين، فإذا صدر عمل فنّي ناقد لفساد أو مهزلة، قامت قائمتهم، لا غضبًا للأخلاق، بل دفاعًا عن الجهة التي تدفع، فيذهبون إلى تحريض المسؤول: "انظر، هذا يهاجم الدولة، هذا يسيء لرموزنا"، والرموز هنا ليست وطنًا ولا تاريخًا، بل فقط من يقذف لهم درهمًا ليقتاتوا عليه ككلاب شاردة.لقد أصبحت "الحرية الفنية" مصطلحًا نخبويًا لا يُمنح إلا للمطيعين، وصار الموهوب الحقيقي ملاحقًا بالتهم الجاهزة: متمرد، ناقد سلبي، معقّد، متعجرف، فقط لأنه لم يركع لصنم الأكاذيب الثقافية، ولم يبتسم لقصيدة جوفاء قالها أحدهم وهو مخمور في سهرة لا تليق حتى بالصمت.نحتاج إلى ثورة لا في النصوص، بل في الضمائرنحتاج إلى مؤسسات لا تخضع لحفلات الشاي ولا للولائم، بل تستمع لصوت العمل الصادق، وتمنح الحرية دون فحص الولاءات.

نحتاج إلى قادة ثقافيين يقفون على خطٍ واحد من العدالة، لا من يوزّعون الجوائز كما توزّع النقود في المقامرة.فما جدوى أن نكتب، إن كان القارئ ناقدًا حسودًا، والناشر متملّقًا، والمهرجان مسرحًا للمجاملات، والجوائز تُمنح لمن يكتب لمن يدفع؟أيها السادة، إن الإبداع ليس "كومسيون" يقف فيه شاعر ليمدح آخر كي يُمدَح، ولا مسرحًا تُقام عليه عروض الأكاذيب

الإبداع موقف، صراخ، مغامرة، انتحار على ورقة بيضاء.أما أنتم، أيها المتباهون بالحقد، والمزيفون في دفء المجالس، فأنتم السارقون الحقيقيون، لا لنصوصنا، بل لأحلامنا التي كنا نكتبها كي نحيا بها، فخذوا المنصة إن شئتم، وخذوا الجوائز إن كانت ترضي غروركم، أما نحن، فسنعود إلى صمتنا... نكتب، ونحترق.ولا عزاء للقيثار المكسور... حين يصبح الناقد أجيرًا لدى السفلة.


مشاهدات 68
الكاتب حامد الضبياني
أضيف 2025/08/04 - 3:32 PM
آخر تحديث 2025/08/05 - 6:04 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 184 الشهر 3129 الكلي 11298215
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/8/5 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير