أذن وعين
النظرية لا تكون خضراء دائماً
عبد اللطيف السعدون
في فترة الشباب يبحث المرء عن معنى لوجوده، وقد يجد هذا المعنى في الارتباط بقضية يصور له الوهم أنها محور الكون، وأن من دونها لا تستقيم حياته ولا حياة غيره، وقد يزين له غرور الشباب أنه منذور لأداء هذه المهمة ومن دونه لن يستطيع المجتمع التقدم الى أمام، وعند ذاك يخضع، ربما من غير وعي ومن دون محاكمة عقلية، لوجهات نظر مثالية تدعمها الخطابات الحادة والدعاية الصارمة التي يروجها من يعتبرهم «قادة تاريخيين» لهم القدرة على التفكير نيابة عنه لكنه حين يكبر، وتتضح له الأشياء في أبعادها الحقيقية يكتشف أن من الضروري له أن يغادر دائرة الوهم والسحر المجاني، ويدخل في مشروع أكثر أمانا وعقلانية، ويبدأ بممارسة حقه الطبيعي في محاكمة الأفكار والناس والأحداث بمنطق جديد ومختلف.
خلاصة رؤية
تلك هي الرسالة التي تريد ايصالها الينا الكاتبة والصحفية المكسيكية آلما غيليرموبريتو في كتابها «هافانا في المرآة»، وقد ضمنته خلاصة رؤيتها عن الثورة الكوبية التي وصفتها بأنها «كانت تجربة واعدة عقد عليها أبناء جيلها الآمال لكنها تعرضت للكثير من الاخفاق لسبب واحد هو أن الحياة ليس دائما كالنظرية، والنظرية لا تكون دائما خضراء «، وقد حاولت من خلال كتابها هذا الذي اعيد طبع مرات أن توثق لمرحلة حساسة عاشتها مجتمعات القارة باتجاه التحديث والتحول.
وغيليرموبرييتو عملت عندما قدمت الى هافانا، وهي شابة، مدربة للرقص، في حينها كان شباب كوبا طافحين بالآمال والتوقعات الوردية، والجزيرة نفسها كانت مثار سحر الجميع، ونشطت آلما وسط حركة الشباب، وقد جذبتها الشعارات الثورية الداعية للتغيير وللقضاء على الفقر والجهل اللذين عانت منهما كوبا، لكنها اكتشفت أن الوقائع اليومية لا تعكس تلك الشعارات على نحو عملي.
أول صدمة واجهتها هي اكتشافها ان حملات العمل الشعبي لزيادة الانتاج التي كانت تنظمها القيادة الكوبية لم تحقق نجاحا، وأنها كانت عملا دعائيا محضا جعلها تتساءل عما إذا كانت الثورة قادرة على التغيير حقا؟
هذا التساؤل بدا لها مشروعا وحرك لديها نزعة المواجهة، كانت تريد البحث عن نموذج للتغيير يولد حقيقة من أرض الواقع، من تاريخ بلدها، ويلبي حاجات مجتمعها، «نموذجا ليس وحشيا كالرأسمالية، ولا متزمتا مثل الاشتراكية»، كان هدفها أن تكون لأميركا اللاتينية هويتها الخاصة، وأن تتمسك بقدرتها على صنع التحول بنفسها.
وخالطها شعور بالمرارة من مستقبل القارة «لأن الرغبات والنيات الحسنة وحدها لا تكفي، وان انجاح أي مشروع للتغيير يتطلب مواجهة وامكانيات وشعورا عاليا بالمسؤولية، والتجربة تعلمنا دائما أن الناس الخطأ حينما يقدر لهم أن يحتلوا المواقع الخطأ فانهم سيفعلون الأشياء الخطأ قطعا».
وقد اكتشفت آلما ان «عقب أخيل» الأنظمة الثورية يكمن في انعدام الصلة بين رجال السلطة وبين المثقفين والفنانين والشعراء والكتاب، وان عدم الانصات الى أصواتهم يقود الى الخطأ. ذلك لأن للشاعر وللفنان رؤيته الخاصة، وهو لا يستطيع أن يتأقلم مع رؤية قد تكون قاصرة أو مفروضة عليه، كما قد لا يستطيع الاندماج في ثورة لا تعترف به.
تضيف الكاتبة: «لقد ارتكب الثوريون كمية هائلة من الخطايا، وقد احتجت سنوات طويلة لكي أدرك ذلك، لقد صعقني الأمر لدرجة أنني اشعر أنني كنت بطلة رواية لها بدايتها ووسطها ونهايتها، وهذا ما أفادني وطبع كل كتاباتي فيما بعد»
خضوع للدعاية
يقول النقاد «ان شهادة الصحفية المكسيكية تعكس شعورا بالذنب لوقوفها مع الثورة الكوبية في فترة شبابها وخضوعها للدعاية الشيوعية المليئة بالثقوب لكنها ترد أنه في فترة الشباب يجد المرء نفسه مهموما بالبحث عن معنى لحياته، وقد وجدت ذلك في تجربة الثورة لكنني تجاوزت الأمر عندما كبرت وأصبحت أكثر عقلانية واكتشفت حاجتي الى مشروع أكثر ضمانا وأمنا.
آلما غيلرموبريتو تقدم في كتابها نتفا من ذكريات متشظية في محاولة لإعادة بناء حياة ماضية، وقد أرادت من ذلك، كما تقول، «الحصول على قدر من التوازن النفسي والفهم الحقيقي للحياة».