حين يبدأ الخراب
حاكم الشمري
لم يعد الغش في العراق سلوكًا عابرًا يمكن تبريره بالضيق أو الحاجة أو “تدبير الحال”، بل أصبح ثقافة صامتة تتسلل إلى تفاصيل حياتنا اليومية، من أبسط المعاملات إلى أخطر مفاصل الدولة. والمشكلة ليست في الغش وحده، بل في اعتيادنا عليه، وفي تطبيعنا له، وفي صمتنا حين نراه يُمارس أمامنا.
في واحدة من أكثر الوقائع دلالة، يروي المخرج محمد فرحان حكاية حقيقية جرت داخل باص عام في إحدى الدول الأوروبية. حكاية بسيطة في ظاهرها، لكنها عميقة في معناها. فتاة لم تمرر بطاقة الباص، تصرّف صغير لا يكاد يُذكر، لكنه أثار دموع سيدة بلجيكية رأت في هذا “الغش الصغير” بذرة خراب الأوطان. بالنسبة لها، الغش لا يُقاس بحجمه، بل بخطورته الأخلاقية، لأنه أول كسرٍ للعقد غير المكتوب بين الناس والدولة.
هذه الواقعة، رغم بساطتها، تختصر مأساة العراق. فنحن لم نبدأ بالغش الكبير دفعة واحدة، بل بدأنا بتجاوزات “بسيطة”: رشوة صغيرة، توقيع غير مستحق، كذبة لإنجاز معاملة، تغاضٍ عن خطأ لأنه “ما يأثر”. ومع الزمن، كبرت هذه التفاصيل، حتى تحولت إلى منظومة فساد متكاملة.
الغش ليس مجرد مال يُدفع أو حق يُسلب، بل هو تربية مكسورة. حين يرى الطفل أباه يغش، أو يسمع أمه تبرر الكذب، أو يشاهد المجتمع يصف المحتال بـ”الشاطر”، نكون قد زرعنا أول مسمار في نعش القيم. وهنا يصبح الغش أسلوب حياة، لا فعلًا معيبًا.
ما يوجع أكثر، أن العراقي الذي صدّر للعالم يومًا حكمة: “من غشّنا فليس منّا”، أصبح اليوم بحاجة إلى من يذكّره بها. بل إن شعوبًا أخرى، كما تروي الواقعة، اقتبست من تاريخنا وأخلاقنا ما تبني به مجتمعاتها، بينما أهملنا نحن إرثنا الأخلاقي.
مكافحة الغش لا تبدأ بالقوانين وحدها، ولا بالشعارات الرنانة، بل تبدأ من الفرد، من رفض “الخطأ الصغير”، من تربية الأبناء على الصدق حتى في غياب الرقيب، ومن ثقافة عامة لا تُصفّق للمحتال ولا تبرر له.
العراق لم يُدمَّر فقط بالحروب والسياسة، بل خُرِّب أيضًا حين تساهلنا مع الغش، واعتبرناه ذكاءً لا جريمة. وحين لا نقف بوجه الغش، نكون قد شاركنا، ولو بصمت، في خراب البلد.
فالخراب لا يأتي دفعة واحدة…
إنه يبدأ دائمًا من تفصيلة صغيرة.