مدن لا تلد أسماءها
سمير اليوسف
في تجاويف الوقت التي لا تضيئها الشمس،
في الهوامش الميتة من الخرائط،
تُقامُ أماكنٌ
لا يُولدُ فيها أحدٌ،
لكنّ الجميع يصلها في غفلةٍ من الذاكرة.
أماكنُ
تتنفّسكَ قبل أن تدخلها،
وتجردك من كل شيءٍ
إلّا من إحساسٍ خفيفٍ بأنك كنت هنا
قبل أن تُولد.
•
هناك،
لا يوجد طريقٌ واضح،
كلُّ ما هنالك
جهاتٌ تستبدل مواقعها كلَّ صباح،
ودروبٌ
تدور كمن يبحث عن نواةٍ نُسيَت قبل أن تُخلق.
•
البيوت لا أبواب لها،
الجدرانُ تنحني على نفسها
كأنها تُنصت لنداءٍ داخلي،
والنوافذ
تطلُّ على فراغٍ يتذكّرك دون أن يراك.
•
الهواء بلا رائحة،
لكنه مشبعٌ بندوبٍ لا تُرى.
•
الوجوه هناك
مكتملةٌ،
لكنّها بلا ملامح،
تتحرّك بثقل حلمٍ قديم،
وتبتسم...
كأنّ الابتسامة صدى لرؤيا سكنت فيهم قبل الذاكرة.
•
لا أحد يسأل،
ولا أحد يجيب،
فالكلماتُ تُقال
لتُنسى،
والحروف تُنطق
لتذوب في الصدى.
•
وحين همستُ بشيءٍ ما
لم يُعِره أحدٌ انتباهًا،
لكنّ الأرضَ اهتزّت
كأنها تذكّرت جملةً كانت قد نسيتها من زمن.
•
رأيتُ ظلاً لا يعود لأحد،
يمشي على الجدار
ويجمع الوقتَ من عيون المارة،
يغسل الذكريات
بماءٍ خافتٍ كأثر حلمٍ
لا لون له ولا صوت.
•
على التلّ القريب
الذي لا يصعد إليه أحد،
كانت هناك كتلةٌ حجرية
تتشقّق كلَّ فجر،
ثم تُرمّم نفسها قبل أن يراها الضوء.
قال لي الصمت
«هنا تكتب الحياة نفسها،
كلّ ليلة،
لكنها لا تذكر الحروف”.
•
سألتُ الريحَ: “مَن أنا؟”
فأجابتني بصوتٍ يشبه دموعًا متحجّرة،
تتلوى ضحكةً خافتةً بين نبضات الصمت،
تقول:
«أنتَ وهمٌ يسيرُ على حدود الذاكرة،
ظلُّ سؤالٍ لا يُجاب،
ونبضةُ فرحٍ ترفض أن تموت.”
المكانُ لا يعترف بالوقت،
فالزمنُ هنا ليس نهرًا،
بل حلقةٌ
تدور دون أن تلتقي بحوافّها.
اللحظةُ تُكرر نفسها
كما لو أنّ الوجودَ
هو فقط محاولةٌ دائمةٌ لأن يُولد من جديد
دون ذاكرة.
•
هناك،
لا يُعاقبك أحد على النسيان،
لأنّ لا أحد يملك ذاكرة،
ولا أحد يُكافَأ على التذكّر،
لأن الحقيقة تُدفن تحت ظلٍّ كالسراب،
لا تثبت إلا في قصص لا تُروى،
ولا تُلمس إلا بأطياف الهَجْر.
•
الومضاتُ الصغيرةُ
كانت تلمعُ في العين
كأنها تعود من زمنٍ بلا ذاكرة،
رذاذٌ من سراب،
أثر على الحائط،
لمسة على الخشب الباهت،
كلها كانت أناشيدَ
لم يكتبها أحد.
•
ثم بدأتُ أتحوّل،
لم أعد أحتاج إلى اسم،
ولا إلى جهة،
ولا إلى ماضٍ يقف خلفي حارسًا،
كلّ ما كنت أحتاجه
هو أن أتنفّس دون أن أفسّر،
أن أرى دون أن أسمّي،
أن أكون… فقط أكون.
•
وفي لحظةٍ
لم يكن لها بداية،
ضحكتُ.
ضحكتُ حتى امتلأ وجهي
لأنّ الأشياء كلها
غدت بسيطةً حدَّ الغرابة،
وغريبةً حدَّ السكينة.
•
تلك الضحكةُ
لم يكن لها سبب،
لكنّها تركتني خفيفًا،
كأنّني كنت أحمل دهورًا من الأسئلة
في صدري
ولم أكن أعلم.
•
والآن…
حين عدتُ،
لا شيء في العالم تغيّر،
لكنّني
كلّما نظرتُ إلى ظلي،
أسمعه يسألني:
هل أنت هنا... أم ما زلت هناك؟
•
وأنا،
كلّما حاولتُ الإجابة،
أضحك.
وكان الصمتُ وحده، يعرف الاسمَ الذي فقدته.