همسات ساخنة ومضات هادئة
إيران بين نارين أو خيارين لا ثالث لهما
لويس إقليمس
أتيقن جادّا بأنّ الحديث عن الصراع الإسرائيلي- الإيراني الساخن في هذه الأيام الصعبة فيه شيءٌ من الجرأة والخروج عن المألوف، إنْ لم يكن من المحظورات في نظر المؤدلجين والولائيين الذين ليس من ثوبهم ولا في خزائن عقولهم استخدام أدنى مفاهيم الحكم على الأمور والوقائع بطريقة حكيمة وبرويّة مقنعة في ضوء المستجدّات والإجماع الدوليّ بشأن المختلَف عليه منذ عقود. وأخصّ هنا بصورة أوضح ما يتعلّق بقضية اختلافية إقليمية ودولية وهي الإجماع الدوليّ بعدم إمكانية امتلاك الجارة الشرقية للسلاح النوويّ للأسباب المعروفة، لاسيّما في ضوء حقائق سعي النظام الإيراني منذ عقود في نشر سياسة التشيّع بطريقته اللافتة للنظر وفرض ما يُسمّى بسياسة الخضوع لولاية الفقيه وسياسته العقائدية التي تشكلُ خرقًا لأفكار ومسميات مرفوضة شكلاً ومضمونًا في مجتمعات عربية متناسقة لا تقبلُ بفكرة الأدلجة الدينية للمجتمع بكلّ تفاصيلها لحدٍّ ما، إلاّ في نطاق محدود للغارقين في طوفان ما يُسمّى بولاية الفقيه. ولعلَّ ما يزيد من حدة هذه الظاهرة والنفور منها، ارتباطُها بتاريخ المنطقة وأشكال العداء القائم بين شعوبها المحسوبة على العروبة وتاريخ علاقاتها مع شعوب بلاد فارس على مرّ القرون الغابرة. ونحن في العراق حيث اكتوينا واشتكينا أكثر من غيرنا من شعوب المنطقة من نتائج حروبٍ دموية واحتكاكات حدودية بين الحين والآخر، وآخرها حرب الثمان سنواتٍ الظالمة والمظلمة للطرفين والتي أكلت الأخضر واليابس لحدّ القحط البشري والمادي والمعنوي في كلّ شيء، ليس من مصلحتنا التورّط ثانية وثالثة في أية نزاعات جانبية لصالح أجندة طرفٍ على حساب طرفٍ آخر. ففي كلتا الحالتين ستكون خسارتُنا باهضة الثمن، وسيتحملُ الشعب العراقي البائس والباحث حصرًا عن لقمة عيش كريمة ثمنَ أية نزاعات إقليمية ودولية بمسمّيات عقائدية لصالح الجارة الإيرانية سواءً بحجة التعاطف المذهبي والخضوع العقائدي لسيادة كهنوتها الشمولي أو تنكيلاً بكيانٍ فرضَ وجودَه باتفاق وتوافق دوليّ في غفلة من الزمن الهشّ ويرى أنَّ من حقه السعي للدفاع عن وجوده بشتى الوسائل المتيسرة، وهي عديدة وكثيرة. فالكيان الصهيوني بما لديه من قدرات مادية وعقول بشرية وأدواتٍ تكنلوجية وتسليحية متطورة وقاتلة ومن تأييدٍ دوليّ واسع لديه القدرة في حالة بلوغ الصراع درجاته القصوى أن ينتزعَ اصطفاف أسياد العالم والمجتمع الدولي إلى جانب حقه في الدفاع عن وجوده، كما تحدث رئيس الوزراء نتنياهو مرارًا وتكرارًا. وهذا هو واقع الحال، شئنا أم أبينا برغم اعتراض وتحفّظ دولٍ لها وزنها وثقلُها الدولي سياسيًا ودبلوماسيًا. ففي الآخر، الأسيادُ هم مَن يخططون، ويثورون، ويثيرون، ويبنون، ويقامرون، ويقيلون، ويقيمون، ويميتون، ويدعمون، ويغيّرون الأنظمة ويقومون بالانقلابات والاغتيالات إذا اقتضى الأمر.
معادلة غير سويّة
في ظلّ هذه المعادلة غير السوية، لا بدّ من إعمال العقل وعدم الانفعال غير المدروس أو المشحون عاطفيًا بالانحياز الميداني الصاخب مذهبيًا لصالح الجارة الشرقية وسط أتون النار الملتهبة بين الطرفين المتصارعين دوليًا من دون مراعاة مصالح البلاد وأولويات الشعب العراقي الذي يئنّ تحت وطأة ازمات متلاحقة ومشاكل متراكمة في تامين أولويات الخدمات والبنية التحتية ونقص السيولة النقدية والخشية من عدم قدرة الدولة الاستمرار بدفع المرتبات وتأمين مستلزمات الحياة. فما شأننا العراقي في دخول محرقة جديدة ليس لنا فيها ناقة ولا جمل! أليست مصلحة الوطن والمواطن فوق كلّ مصلحة جانبية ونزاعٍ دوليّ وصراعٍ بين الكبار؟ ما لنا وامتلاك السلاح النووي من اي طرفٍ كان؟ وهل كبرنا وتعقّلنا وسدّدنا الخطى في التربية والتعليم والصحة والعلوم والهندسة والصناعة والزراعة والتنمية والبناء والنزاهة والوطنية كي يكون باستطاعتنا اللعب مع الكبار أو الانحياز عاطفيًا ودينيًا ومذهبيًا إلى جانب جارة ما نزال نعاني من سطوتها وتغوّلها على مقدّرات البلد وسياسة حكوماته الخانعة المتعاقبة؟
لنضمنْ قبل كلّ شيء ضمن أولويات حكومتنا الراهنة وأية حكومة قادمة ما يشفي غليل مواطنينا الجائعين وموظفينا المهانين ومتقاعدينا المتهالكين وخرّيجينا الذين يلهثون وراء عملٍ أو وظيفةٍ تقي وتصون وتُؤمِّن لهم ولعوائلهم الخبز الكريم والماء الصافي والمصادر الكهربائية والمائية والتقنيات المتطورة لضمان وإدامة الزراعة والصناعة والحياة بأشكالها الطبيعية والتنافسية المتيسرة.
فهذا أفضل من اللهاث وراء عقيدة لا تغني ولا تسمّن ولا تمنح الدفء والكرامة والعيش الرغيد للشعب. مالنا والكهنوت العقائدي العاجز الذي يقمع الطموح المجتمعي المتعايش وهو عاجز عن ضمانة الكرامة البشرية للإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله في انعكاس محبته ورافته وتسامحه ولطفه وبحثه عن أشكال السلام والمودة مع جاره وبني جنسه؟ وإن كانت الجارة إيران قد استنفذت أو كادت تستنفذ خياراتها بين القبول بالجلوس على طاولة المفاوضات والخضوع لإرادة المجتمع الدولي الرافض لامتلاكها السلاح النووي بأيّ شكلٍ من الأشكال وبين الوقوع في مصيدة القتل في حالة رفضها للمقترح الأمريكي ومعه دول مجموعة السبع التي حسمت أمرها ووجهت سياساتها بين الخيارين اللذين لا ثالث لهما، فهذا لن يترك لها خيارًا آخر وعليها التفكير مليًا بين الحياة والعيش الآدمي أو الزوال والانحلال السياسي.
في اعتقادي، على الأطراف المعنية في الصراع القائم بين كلٍّ من إيران وإسرائيل، ومَن يدعمهما أو يختلف معهما في العقيدة وفي السياسة، أن ترتقي إلى أسمى درجات ضبط النفس والعودة إلى الدبلوماسية حتى لو كان ذلك على حساب خسارة مكاسب أو كسر قاعدة ايديولوجية دينية ومذهبية مع تقديم تنازلات متبادلة قد تكون باهضة الثمن ماديًا وسياسيًا. فذلك أفضل من خسارة دولة بكاملها ومنظومة بشخوصها وتعطيل حاجات الشعب وكسر شوكته بسبب عنجهية الحكومات وشعبويتها وشمولية أنظمتها المتهالكة. من هنا، فالمجتمعات الراقية التي تحكمها عقولٌ نيّرة ومثقفون ناضجون وقادة بارزون ومصلحون نزيهون قولاً وفعلاً ممّن يضعون مصلحة البلاد والعباد في مقدمات تفكيرهم وأدائهم وسياساتهم لا تجنح بطبيعتها للحروب والدمار بل تختار أيسر الطرق للوصول إلى ميناء السلام وتأمين الاسقرار والعيش الرغيد بدل الضياع في متاهات الحروب والصراعات التي تدمّر الأوطان وتهدم البناء المرصوص المبني على أسس وطنية قائمة على التعاون والمحبة والتسامح جنبًا إلى جنب في تأمين السبل الكفيلة ببناء البشر وصيانة الحجر واحترام الشجر. فذلك أفضل من اللهاث وراء حسابات قد تشعل المنطقة بأكملها وفق استراتيجيات كلّ طرفٍ. ففي حالة ميل كفّة الصراع لصالح الإسرائيلي في التصدّي لاستراتيجيات الهيمنة التي تسعى إليها الجارة الشرقية بكلّ قدراتها وحيلها وأتباعها ضمن المحور الذي أسّسته وتقوده بفرض طموحات أجنداتها على شعوب المنطقة وبلدانها بحسب المفهوم الكهنوتي لنظام الوليّ الفقيه، واصطفاف حليفها الأمريكي مع توجهاتها واستراتيجيتها الفاعلة، فإنّ الصراع قد يأخذ مشهدًا قاتلاً آخر مختلفًا وقابلاً لإحراق المنطقة بأكملها، وربما اتساعه دوليًا. وفي هذا خيارٌ خاسرٌ وقاتلٌ غير محسوب النتائج. كفانا الله شرَّه، وكفى المنطقة والعالم تأثير اتساعه وفقدان السيطرة على أحصنته المتغطرسة وثيرانه الثائرة!