الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
قتال ودمار  أم سلام وحوار ؟  (2)

بواسطة azzaman

قتال ودمار  أم سلام وحوار ؟  (2)

بيوس قاشا

 

لا سلم إلا بالحرب

نعم، تباينت المواقف وتعدّدت المفاهيم وتعقّدت الأمور، واستبدّ سوء الظنّ بالفرقاء، فذهبوا جميعاً إلى اعتناق مبدأ «لا سِلْمَ إلاّ بالحرب»، شاء الخالق أو أبى، وضربوا عرض الحائط بتعاليم السماء والقيم الحضارية والمبادئ الأخلاقية والعاطفة الإنسانية ومضمون الكتب السماوية، وتبنَّوا مبدأ لا يُقرّه الله ولا تعترف به الحضارة «العين بالعين والسنّ بالسنّ»، واليوم زاد بعضهم هذا المبدأ تشدّداً وهمجيّة فقالوا:»العين بِعَشْرِ عيون، والسنّ بأسنانٍ عشر»، وإذا بربّ السماء يجلجل متوعّداً:»لا سلام للمنافقين، يقول الرب» (إشعيا 22:48).

حاجتنا أن نسعى مخلصين إلى تحقيق السلام عبر تربية الشعوب على احترام السلام وتوفير الأمن والتعايش الأخوي، إذ رحنا نتبع، واعين أو غافلين، المبدأ اللإنساني الذي يقول:»إن شئتَ السلام فتهيّأ للحرب»، ومعناه لذوي النوايا السيئة، إنه يجب إبادة الغير لئلا يبقى مجال للإقتراب. إنه مبدأ شيطاني لا شكّ في ذلك لأن إبليس هو قتّال النفوس منذ الأزل وما زال، وكم له في الدنيا من أعوان. في حين أنّ الخالق لم يخلق البشر ليُقتَلوا لأنهم جميعاً خلائقه، وما شاء الله أن يخلق خليقة لا يحبّها.

فالحرب تدمّر حياة الأبرياء وتعلّم القتل وتزلزل حياة القتلة وتخلّف وراءها الفضيحة والثأر، وتَحُول دون التوصّل إلى حلول عادلة للمشاكل التي سبّبت إندلاعها. أَلَمْ ينقضي ذلك العهد البغيض حيث كانت الحروب موضوع تسلية العظماء من ساسة البلاد وأوليائهم، يعمدون إليها لأتفه الأسباب وأوهى الحجج، حيث كانت الحرب حقّ القوي والمستعمر للسيطرة على الضعيف والعبث به، وبما يعود له من مال ورجال وممتلكات؟.

إن الأرض اليوم ليست بحاجة إلى سلام قيصر، فقيصر حقّق سلامه الروماني المعروف «باكس رومانو» )PAX ROMANO ( على أسس السطوة والسيطرة والرعب، وَوُلِدَ في زوايا مملكته الفسيحة طفلٌ قالت السماء عنه «إنه مَلِك. إنه علامة مجد الله، وإنه السلام الحقّ لبني البشر» (لوقا14:2).

كما إن الأرض ليست بحاجة إلى سلام يفرضه القوي على الضعيف، ومع الأسف هذا شأن زماننا، وبهذا يبتعد السلام عن حقيقته ليتربّع في قصر فخيم، ويصبح الفقراء والأبرياء ضحايا الأنانية والكبرياء، فتموت الإنسانية وكرامتها.

هضم حقوق

فنحن اليوم بحاجة إلى أناس يغضّون الطرف عن الإساءة ويقضون على القذى ويتجنّبون الفتنة ولا يحجمون أمام هضم حقوقهم، ومثالنا في ذلك إبراهيم، كان رجل سلام، فعندما إحتدم الخلاف بين رعاته ورعاة ماشية لوط ابن أخيه قال:»لا تكن خصومة بيني وبينكَ، ولا بين رعاتي ورعاتكَ، إنما نحن رجلان أخوان. إختر ما يبدو لكَ» (تكوين 3:13). هذه هي الرجولة الحقّة لأن الحاجة الحقيقية هي حاجتنا إلى رجال صلح ومصالحة، رجال أنس وحكماء ورحماء بل رجال غفران ومسامحة، يفهموا ويدركوا واقع بؤس الإنسان فيعملون من أجل الرحمة لتخفيف وطأة البؤس والشقاء من أجل كرامة الإنسان، فما أجمل أقـدام المبشّرين بالـسلام (إشعيا 7:52). إنهم أبناء الله، وينظر الناس إليهم كممثّلين عن الله، فيلقون بين أيديهم همومهم الداخلية ومشاكلهم الإجتماعية، وهكذا يصبحون قضاة الأرض وهم ورثة الله، يتمتّعون في هذه الحياة بمحبة القلوب والذكر الحسن، ويتمتّعون بإكليل مجدٍ سنيّ.

إن عالم اليوم عالم مليء بالتناقضات الصارخة، منذهل بفكرة «حقوق الإنسان»، يتحدث عنها في كل مجال ويرى فيها إطاراً عامّـاً يسهم في الإعتراف بقيمة الحياة وكرامة كل إنسان في حدّ ذاته بصرف النظر عن كل تفرقة في العرق أو في البلد أو في الدين أو في الرأي السياسي أو في الطبقة الإجتماعية، غير أنه لا يرى لها ترجمة عملية. فالواقع «مأسوي» لأنه يعبّر عن انفصام عميق في الإنسان، إذ لا زالت كرامة الإنسان تُداس في أنحاء عديدة من العالم، وأضحى الإنسان وحشاً ضارياً لأخيه الإنسان. وفي هذا كله، فأحبار الكنيسة الكاثوليكية لم يتجاهلوا أبداً هذا الموقـف المأسوي، فيوحنا الثالث والعشرين وبولس السادس يقولان:»إن طريق السلام يمرّ عبر الدفاع عن الحقوق الإنسانية الأساسية وتعزيزها. فكل شخص بشري يجب أن يتمتّع بسلام الحياة».

ويوحنا بولس الثاني يقول:»إن الكنيسة تدرك مسؤوليتها في نشر الحقيقة حول الإنسان لأنها وُجِدَت لخلاصه. فعندما تراه غارقاً في نهج خاطئ يقوده إلى خسارة حياته وتشويه كرامته،لا تستطيع أن تقف مكتوفة الأيدي. إنه وديعة بين يديها»، وهي تعي أكثر من غيرها قيمته وتتفهّم ضعفه. ولأنها بدون الإنسان تفقد غاية وجودها ورسالتها. إنها مَعنيّة مباشرة بما يعيشه إنسان اليوم من مخاطر في مسألة الحياة والسلام.

في عالم اليوم، هناك مخطَّطان يظهران بوضوح، أحدهما يناقض الآخر. مخطَّط يصوّره قايين ويقود إلى الموت، وآخر يصوّره الله ويقود إلى الحياة. والمخطَّطَيْن معاً لهما جامع مشترك وهو مسؤولية الإنسان. ففي الموت أو الحياة يلعب الإنسان دوراً مهماً نستنتجه من الحوار الذي أجراه الله مع قايين، سائلاً إياه عن حياة أخيه. وهنا تظهر أهمية الإنسان في العيش بسلام مع الله كشريك في رعاية الحياة، أو في أن يكون عدوّ الله في إعتبار الحياة مُلْكاً له يتصرّف بها على هواه. فحوار الله مع قايين تركيز على كرامة الإنسان وقيمته، لأنّ الحياة في جميع مراحلها مقدّسة، والعيش بسلام مع الله لا يكون إلاّ في حفظ كرامة عمله.

امور اساسية

من هنا نفهم أن الكنيسة عندما تتحدث عن الحياة البشرية وكرامة الإنسان لا تعمل شيئاً سوى إيصال صوت البشارة الإلهية إلى الإنسان، فقد قال البابا القديس يوحنا بولس الثاني:»لا يمكن أن نسمح بعد بوجود عالم يعيش فيه جنباً إلى جنب، أغنياء ومحرومون، أشخاص لا يملكون أي شيء، محرومون حتى من الأمور الأساسية للحياة، وأشخاص يبذّرون من غير تقدير. مثل هذه المناقضات هي إهانة لكرامة الإنسان».

نعم، إن الحرب ما عادت واجباً بذاته، ولا يجوز اللجوء إليها أو إستخدامها كوسيلة لأجل السلام، بل السلام الأساسي الذي يجب أن يسعى إليه أبناء الناس أجمعين، أفراداً وجماعاتٍ، لتسود العدالة بينهم ويعمّ الإخاء، وذلك عبر تضافر الجهود وتساند المساعي من أجل توطيد أركان سلام عالمي راسخ ومكين، وهذا يتطلّب من الجميع مدّ الأيادي عبر نوايا سليمة، بصرف النظر عن العنصر أو المذهب أو المشرب، من أجل الحفاظ على ما حقّقت الإنسانية من مكاسب، والسعي للحصول على مكاسب أخرى خاصة بعدما تشعّبت العلاقات الدولية إلى أبعد مدى وتشابكت مصالح الشعوب وارتبطت بعضها ببعض ارتباطاً وثيقاً جداً. من هنا ندرك - إنه لايمكن القبول، ولا يجوز أن يبقى السلام رهينة العنف في العالم، ولا يمكن استخدام الحرب كوسيلة - إنّ الدول والشعوب التي تحبّ الحروب تتكلّم كثيراً عن السلام لتعطي طابعاً إنسانياً عن الحرب وهي في الداخل مليئة بالحقد والكراهية بل بعيدة عنه. وكما تجاوز الإنسان الأول السلام عندما تجاوز شريعة الله هكذا تجاوزت الدول الكبرى احترام حقوق الآخرين والشعوب من أجل حقوق شعوب بلدانها فقط، فإن الدول عندما تتصرف «وكأن الله غير موجود، لا تفقد فقط معنى سرّ الله بل معنى سرّ العالم أيضاً وسرّ كيانه».

  المونسنيور مسؤول كنيسة مار يوسف للسريان الكاثوليك


مشاهدات 117
الكاتب بيوس قاشا
أضيف 2025/05/26 - 4:20 PM
آخر تحديث 2025/05/27 - 11:35 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 23 الشهر 36465 الكلي 11030469
الوقت الآن
الأربعاء 2025/5/28 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير