القلم الحر
نهلة الدراجي
في وطنٍ متعبٍ من صمتٍ طويل، تتكسر الكلمات في صدورنا قبل أن تبلغ الورق. نكتب، لا لأن الكتابة ترف، بل لأن السكوت جريمة. نكتب لأن أصوات الأمهات الثكالى لا تصل إلى الشاشات، ولأن وجع الأرامل لا يجد من يترجمه. نكتب لأن في الزوايا المنسية أطفالاً يحلمون بالدفء، بينما يتنازع الكبار على كراسي باردة. نكتب لأن الحقيقة في هذا الزمن صارت سلعة، ولأن الصدق يُقصى من العناوين الأولى.
أنا ابنة هذا التراب، عراقية بحبرٍ لا يجف، أكتب لأني لا أملك سوى قلمي، وأحمله كما يحمل الجندي بندقيته، لا لأقتل، بل لأحيي الحقيقة التي يُراد لها أن تُدفن. أكتب لأني أؤمن أن الصحافة الحرة ليست مجرد مهنة، بل موقف. ضمير يسهر حين ينام الضمير الجمعي، وصوت ينطق حين يختبئ الآخرون خلف الصمت والخوف والمصالح.
في كل مرة أفتح فيها دفتري، أشعر أني أفتح جرحاً جديداً في جسد الوطن. ليس لأنني أحب الألم، بل لأنني أؤمن أن الكتابة عن الظلم هي أول خطوة نحو العدالة. من قال إن الصحافة يجب أن تكون محايدة؟ أنا لست محايدة حين أرى طفلاً يبحث في القمامة عن بقايا خبز. لست محايدة حين أرى الأرامل يقفن في طوابير الإعانات، ولا حين تُقتل الحقيقة على أعتاب المكاتب الفخمة.الصحافة الحرة هي الحارس الحقيقي لذاكرة الشعوب، وصوت من لا صوت له. هي التي تكتب عن الذين لا يملكون قدرة الوصول إلى «اللايفات» والمؤتمرات. هي التي ترفع الستار عن المشاهد التي لا يُراد لها أن تُرى. هي التي تضع يدها على الجرح، لا لتؤلمه، بل لتُظهره وتداويه.نحن لسنا ضد الحكومات، بل ضد الظلم. لسنا ضد المؤسسات، بل ضد الفساد. نكتب لأننا نؤمن أن التجميل لا يصنع وطناً، وأن التطبيل لا يبني مستقبلاً. نكتب لصالح الناس، لا لصالح من يُملي علينا الرأي من فوق.رسالتي، كصحفية عراقية، أن يكون قلمي صادقاً حتى وإن كلفني ذلك العزلة. أن أكون مرآة الشارع، لا مرآة الحاكم. أن أكتب وجع الناس، لا أمنيات المسؤولين. أن أقول ما لا يُقال، لا ما يُطلب مني قوله. أن أكون صوت الأمهات..
في هذا الزمن الذي تُشترى فيه الأقلام وتُصادر فيه الحقيقة وتُقمع فيه الكلمة، تبقى الصحافة الحرة هي الأمل الأخير لوعيٍ يقاوم الانسحاق، ولشعبٍ لا يريد أن يُنسى. سنكتب، وإن كانت الكلمات خناجر في خاصرتنا. سنكتب، لأن من لا يكتب حين يرى الظلم، يكون شريكاً فيه.الكاتب الذي لا يحمل على عاتقه همّ الناس، لا يستحق أن يُسمى كاتباً.وهكذا، أرفع قلمي، لا ليُعجب أحد، بل ليشهد عليّ التاريخ: أنني قلتُ الحقيقة، حين كان الصمت أسهل. (صحفية عراقية تحلم بوطنٍ حر وشعب حر يُسمع صوته).