اشتغالات المثقف
وليد شاكر النعاس
عن دار مؤسسة الصادق الثقافيه،صدر الكتاب الموسوم (اشتغالات في الشعر والقصه والميثلوجيا) للباحث المثقف نجم الجابري، ويقع في مئه وخمس وثلاثين صفحة، في اشتغالات تنوعت معرفيا ومفاهيميا بين حورات و قراءات نقدية في موضوعات الشعر والنثر والفكر، وهوالمنجز الإبداعي الرابعة له
وقد توزعت اشتغالات (الجابري) في جزئين، اولهما : ابتداه بحورارات مثقفة وجريئة مع فئات مختلفه الانتماء، بين شاعر وقاص وسارد واكاديمي وباحث من انتماءات عراقيه وعربية تقّصد (الجابري) انتقاءها. وثانيهما : مقاربات نقديه وفكرية، تجولت مع فنون متباينه الانتماء الأجناسي، ذات فضاءات تدوينية مختلفه وقبل ولوج تلك الاشتغالات ادعي انها مدونةمثيره، يتاملها القارئ بذهنه وفكره تزامنا مع عينيه، يفككها ببصيرته لسبر اغوارها، جهدا ثقافيا وابداعيا ومنجزا نقديا محمل بدلالات عميقه. ففي جزئها الأول من حوارياته أظهر ما انجزه الآخرون، وفق نسج من الأسئلة يصوغها(الجابري)بأناة وفهم وادراك لمن يحاورهم، راميا إلى كشف مخبوئاتهم المعرفية والثقافية ، مستبصرا لها ومبصرا للقارئ عليها، باتحاد سؤاله مع اجابه المتحاور معه كاشفا الضوء المتمايز بينهم انجاز ثقافيا.
ووفق مفاهيم (جيرار جينت) عن المتعاليات النصيه، فقد ادت حواريات المثقف (نجم الجابري) دورها التوجيهي للقارئ نصا موازيا لا يستغنى عنه في الدراسات النقدية، ذلك حين يميط اللثام عن مخبوءات المتحاور معهم، بما يتصل بهم مباشرة من مؤلفات وندوات واهتمامات ذهنية، لها بعدها القاسم المشترك بسيرتهم الذاتية والمعرفيه، ليكون ذلك الحوار معلما له أهميته لدى الباحثين، بوصفه نصا فوقيا له دلالاته المباشرة مع ما انجزوه من متون ثقافية، فيكون الحوار معهم نصا يضئ جانبا من متونهم الثقافيه المطبوعة..
وعليه يمكننا الإقرار المعرفي ان جميع محاورات (نجم الجابري) هي قراءات انتاجيه، بغض النظر عن تمايز المتحاور معهم، بوصفها قراءة افصحت عن ذهنيته التحليلة العميقة، وهو يثير الاسئله تلو الأخرى، ليستنطق افكار المتحاور معهم، حول فكره هنا، واضاءه هناك، ليوصلنا الى ما يسمى ( الاستعاده الببلوغرافيه)، تلك التي تؤسس اخبارا بؤرية تحيط بنتاحات من حاورهم، ولها علاقه استتباعية بنتاجاتهم الثقافيه كنص مواز.
ان المتحصل المفاهيمي من حوارات (نجم الجابري) تحقق أهدافها دليلا مساعدا للقارئ، بالافصاح عن وجهات نظر المتحاور معهم، في قضايا عديدة، تنوعت ما بين بواعث
إبداع ذاتيه واخرى خارجيه، وخلالهما (البواعث) كشف المثقف (الجابري) ثيمات عديدة، اوقفنا فيها مع المتحاور معهم عن موضوعات مثل: النفي والهجرة والذاكرة والهوية وسرائر الأفكار، وعن قضايا الوطن والخراب والحب والمكان والزمان والتاريخ، وهكذا كانت أسئلته مستفزه ثقافيا، بوصفها شهادات مهمه افصح عنها لسانيا مع من حاورهم.
ومن تمثلات المتحاور معهم، ما جاء من اسئله وجهها لشاعر المفاهيم (سعد سباهي)، قوله وهل هناك نقطه على خارطة الزمن يتوقف فيها التألق الشعري او قوله، هناك قصائد سرديه ذاب عليها جبلك، هل ان قصيدة السرد خاضعه لتغييرات الزمن وغذاء المبدع، ام انها نمطيه محدوده لشخص او يجعل دون غيره ص ١٠ فتاتي اجابه شاعر المفاهيم (سعد سباهي) إضاءة لها رباط ثقافي بنتاجه الشعري، فضلا عن دور تلك الإجابة اضاء مفاهيميه، بوصفها نصا فوقيا يديم التواصل مع قارئ (سعد سباهي).
ومن التمثلات الأخرى، ما افصح عنه شاعر النمط الاغر (يحيى السماوي) وهو يضيف جانبا من مجموعته الشعريه (نقوش على جذع نخلة)، بقوله :أردت في هذه القصيده التعبير عن قناعتي بحقيقة ان أمريكا ليست هيئة امر بالمعروف..، بقدر ما هي فرعون اقتصادي سياسي تريد تركيع العالم أمام جبروتها. ص٣٥
وكذلك ما جاء في اجابه القاص العجائبي زيد الشهيد وهو يتحدث عن كتابه (بانوراما الرواية). بقوله ((هو دراسات في الرواية العالمية والعربية..)) ص ٥١
وربما يطول وقوفنا على مثاقفة (نجم الجابري) المتوقده انشغالا فكريا مع المتحاور معهم، كشفا عن رؤياهم الإبداعي، وكنص موازي للقارئ الباحث بما اشعرنا ناتلف ذوقيا و ذهنينا تواصلا معهم، فكان الفصل الأول من كتاب الاشتغالات اثره الواضح في تضييق النتاج الثقافي العراقي بشكل متميز، وقد كان ( نجم الجابري) ذكيا في اخضاع تسلسل الحوارات وفق حدثها الزمني وليس عمقها المعرفي، الا في حالات خاصه له المقصدية في تقديمها او تأخيرها، واحسب ان قلم (نجم الجابري) لم يتحيز الى فضاء ثقافي او معرفي او اجناسي دون آخره..
اما في الجزء الثاني من اشتغالات الجابري فقد خصصها لمقارباته النقدية والمعرفية لمتون إبداعية مختلفة، كشفا عن ظاهرها ومضمونه، ليقف وجها لوجه مسائلا المتون الإبداعية؛ وقد تسلح بجهاز نقدي مثابر في تتبع مدونات شعريه ونثرية وفكرية.
ومن تمثلات تلك القراءات الفاحصة، ما قاله عند المجموعة الشعريه (تراتيل اوروك) لشاعر النغم (قاسم والي)، مستعرضا مفاهيم مختلفه في تحليله لنصوصه الشعريه، فيقول مشيرا عنها ((هناك شفرات في كل مكان قصائد المجموعة، تحتاج إلى ناقد لفك الطلاسم والتراكيب المنضوية تحت الايماءات)) ص١٤٢ او يقول عنها في موقف اخر ((لقاسم والي معجمه الخاص وقاموسه الواسع والملاحظة الأقرب ان الكلمات التي في غاية الوضوح الملقاة أمامنا..)) ص١٤٧
ويفيض (نجم الجابري) تحليلا في مجموعة (تراتيل اوروك)، وقد تخيرها بقصيدة واضحه كأنه وجد ضالته وهو يضيء عمقها الدلالي افصاحا عن مخبوء معناها. ولا اجاملك يا صديقي المثقف، ان مجموعة (تراتيل اورك) احسبها أخطر أعمال شاعر النغم ( قاسم والي)، وانا وجل الاقتراب منها، لما حملته من رموز ذاتيه وجماعية، مستنطقا فيها الأساطير والرعب والنفي والألم والاغتراب، في نسيج مثير ابداعا.
وتكرر حضور (نجم الجابري) قارئا مبدعا في رواية النساي للكاتب المثابر ابهاما (يوسف المحسن)، مفليا متنها شفرات وعلامات ودلالات، ملمحا الى مقاصدها المخفية، الكليه او الجزئيه، كاشفا عن ظاهرها قيمة جماليه واصفا اياها :
واشبه بالخيالات والأحلام، وهي تتكلم عن أجيال عديدة، وغرائبية فريدة وباسلوبها المميز...، بلغة شعريه شفافه...، هي حكايات البحر التي ذكرها ماركيز في قصصه...، عالم يؤمن بالتخيلات والاساطير)) ص١٥٦
ثم ينقلنا (الجابري) الى متخيل أحداث الرواية انها
أحداث مكثفة من زوايا مختلفة، حوارات ابطالها المشاكسون غير منتهية، بحيث تدرك انك أمام شيء عجيب فيه تفاصيل مخفيه، ظاهرة لا يدل على باطنه)) ص١٥٧
ومن قراءته المتميزه في شعر الاستاذ باقر السماوي، بحثه عند موضوعة (المرأة والوطن) قيمة تشظت في ثنيات شعره، إذ وقف عند نماذجها، ليكشف لنا عن وعي الشاعر وادراكه لحرفته في صناعة القول الشعري، وصولا الى توصيف
حقولها الدلالية في مجموعها المنتظم نسقا علائقيا، فيقول عنه ((مجمل شعر باقر السماوي تشبيهات واستعارات...، تنطبق بشعره..، كما في قصائده للمرأة والوطن)) ص ٢٣٠.
وربما استعير مفهوم باختين عند الحوارية، لأدعي قولا ان جميع اشتغالات (نجم الجابري) في كتابه؛ . تحمل في طياتها علاقات نصوصية، سواء كانت ظاهرة او مضمرة مستتره، وهو نقلة مثيره رصدت بالتحليل الكاتب ومن حاورهم او قرأ لهم. ليكون هذا الكتاب بحق نصا مفاهيميا موازيا لا يستغني عنه الباحثون