أذن وعين
فاضل الربيعي باحثاً وروائياً وناشطاً سياسياً
عبد اللطيف السعدون
يطيب لبعض «المتثاقفين» المتعاملين مع «فيس بوك» وسواه من مواقع التواصل ممارسة هواية النيل من شخصيات عامة، مفكرين وباحثين وأدباء، كلما سنحت لهم فرصة، بهدف تشويه سمعتهم، وابعادهم عن دائرة الضوء، وهذا كله نتيجة احساس بالحقد أو شعور بالنقص، ونجد عينات من هذا النمط من الثرثرة ماثلا على تلك المواقع، ولا يستحق هؤلاء «المتثاقفون» أكثر من الرثاء.
هذا الرصد مبعثه ما تعرض له المفكر والروائي العراقي فاضل الربيعي، والذي لا يستطيع، وقد رحل عن عالمنا الدنيوي، أن يتصدى لما تعرض له، مدافعا عن نفسه، أو موضحا لموقف، أو مفندا لاتهام كاذب.
وفاضل الربيعي، لمن يجهله أو يتجاهله، قامة عالية، باحث من نمط خاص، يكفيه أنه قرأ المرويات والأساطير التاريخية، بحث في التوراة، وجغرافية الأديان، واليهودية، والسبي البابلي، وفلسطين، واليمن، وجزيرة العرب، وعمل على تفكيك تلك المرويات والأساطير، وتركيبها على نحو مختلف عما قرأه أو سمعه، سعى لانشاء تاريخ مغاير للسائد، وقد حقق اختراقات لافتة شكلت رصيدا له، قال ان اليهود لم يكونوا أصلا في فلسطين انما قدموا اليها بعد السبي البابلي، وان «التوراة» نزلت على أرض اليمن، وان واقعة «التيه» حدثت في اليمن، وقال أكثر من ذلك مؤسسا لسرديات جديدة تنسف ما عرف قبله بأنها «حقائق يقينية» لا تقبل الجدل، وترك وراءه أفكارا وقناعات مدعمة بأدلة وحجج، ونشر ما توصل اليه في أكثر من عشرين كتابا، وقد وضعه ذلك في موقع جدلي مع عديد من مفكرين وكتاب سبقوه أو أعقبوه.
تقدير النقاد
والربيعي قبل ذلك كان روائيا، كتب القصة القصيرة كما كتب الرواية، روايته «عشاء المأتم» كانت عرضا صريحا لتجربته ابان كان منتظما في الحزب الشيوعي العراقي، وحملت نقدا لاذعا لممارسات وأخطاء استدعت التأشير عليها وادانتها، وقد قوبلت الرواية بإعجاب وتقدير النقاد في حين وجد فيها البعض من رفاقه السابقين انتقاصا من مكانة حزبهم، ولذلك وجهوا له سيلا من الشتائم والاتهامات لم يسلم منها حتى بعد رحيله.
الربيعي ايضا كان مناضلا يساريا منذ نعومة أظفاره، انتسب للحزب الشيوعي وعمل في صحافته، ثم وجد نفسه خارج التنظيم بقناعة منه أن الحزب لم يعد كما أراده وحلم به، ونقل موقعه الى الساحة الفلسطينية اذ ارتبط بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كما اقترب من حزب البعث (اليساري)، وساهم مع ناشطين عراقيين في تأسيس «التحالف الوطني العراقي» الذي تبنى معارضة الحكم في العراق، ودون أن يزج نفسه في تنظيمات المعارضة التي كانت صنيعة الولايات المتحدة، وكتب بعد الغزو في دعم المقاومة، وادانة الاحتلال.
حملة «المتثاقفين» على الربيعي بعد رحيله تناولت بالتجريح المهمة الوطنية النبيلة التي سعى لأنجازها مع اثنين من الناشطين السياسيين هما عبد الجبار الكبيسي(عضو قيادة قومية في البعث اليساري)، وعوني قلمجي (سياسي مستقل)، وكان أن جاءوا الى بغداد قبل شهور قليلة من الحرب الأميركية على العراق في محاولة لاقناع صدام حسين بتوفير مستلزمات المواجهة، وكانت طروحات الوفد الممثل للتحالف الوطني العراقي تركز على ضرورة المباشرة باصلاحات ديمقراطية، واطلاق الحريات، والانفتاح على المعارضة الوطنية، والعمل على مصالحة وطنية تفضي الى اقامة «جبهة شعبية» فاعلة، وكذلك اطلاق سراح المعتقلين السياسيين وتوفير ضمانات الأمن والعمل لهم.
وقد سنحت لي فرصة أن أكون شاهدا على ما حصل في تلك الزيارة من خلال عملي مراسلا لصحيفة دولية، ولعلاقتي الشخصية بعضوي الوفد الربيعي والكبيسي، وفي حينه التقيت بالربيعي ورفيقيه أكثر من مرة، واستمعت اليهم، وتعرفت على ما توصلوا اليه بعد لقاءاتهم مع مسؤولين في الحزب والدولة، وثمة حقيقة اكتشفتها، وأرى أن من الضروري تثبتها هنا، هي أنهم لم يسعوا للحصول على مكاسب شخصية، رفضوا عرضا بالسماح لهم بتشكيل حزب سياسي وأصدار جريدة، وحتى تسنم مناصب وزارية، وقد خرجوا من اللقاء المفتوح الذي نظمه لهم «بـيت الحكمة» للقــــــــاء طارق عزيز بخفي حنين حيث سمعوا من عزيز أن «حزب البعث هو الذي فجر الثورة، وهو لن يتخلى عن دوره القيادي» بما يعني رفض أية مبادرة لمصالحة حقيقية تنقذ البلاد والنظام نفسه. وسمعت الربيعي، وهو بحزم حقائبه للعودة من حيث أتى، يقول: «الحرب قادمة، وستطيح بالنظام، ولا سبيل لحل مادام النظام يواصل تعنته وغروره».