أعمال حداثاوية لفاضل سوداني في المدينة الصغيرة
من (إبن الحوله) بالنخلة والجيران إلى الغربة
بغداد - كافي لازم
ولد الفنان فاضل سوداني بمدينة جميلة غافية على ثلاث انهر بين دجلة وفرعيه المتجاورين المشرح والكحلاء وكأنها فينيسيا الشرق ولو هناك رجال دولة يعملون بصدق واخلاص لكانت هذه المدينة من ابدع مايكون...انها محافظة ميسان الرائعة بشعبها الطيب وشعرائها وادبائها وفنانيها المجيدين.
جلسنا في مقاعدنا ونحن طلبة اعدادية في مقاعد الدرس ننتظر المدرس الجديد بعد ان سمعنا بأنه غريب الاطوار ومراقب الصف يؤكد انه قاس ولايقبل المساومة. وكان يهدأ من روعنا.. وعندما دخل المدرس الصف ساد صمت عميق وطويل وحالة الاستغراب بادية على وجوه الطلبه اذ كان شكله المثير وغير المألوف من حيث ان شعره المجعد المتهدل على كتفيه مع ان طوله مائل للقصر وعيناه ثاقبتان فضلا عن قميصه الاصفر الفاقع اللون وبربطة عنق بلون بنفسجي وسترته الخضراء (المقفلة) بالمربعات وبنطاله بلا لون واضح. كل هذه الحالات المستفزة والمتعاكسة اثارت اللمزات والغمزات بين الطلبة.. فمنهم من يبتسم ومنهم من طأطأ رأسه والأخر عينه على شباك الصف ، تمشى اولا بين ممرات الصف ونحن ننتظر ان يقول شيئا.. اي شيء،واخيرا ادار ظهره علينا ووجهه على السبورة ولانعرف ماذا يبغي.. واخيرا وبحركة مسرحية التفت الينا وبقوة.. .. قالهاونطقها وهي كلمتين فقط (شقوا قشوركم) وهنا تعقد الموقف اكثر بل تمنى بعضهم لو لم يتكلم يكون افضل.. ازدادت حيرتهم وتبادلوا النظرات فيما بينهم ،وبعد لحظة صمت انبرى الطالب الذي كان جالسا جنبي وهو ممثل كوميدي جريء (استشهد في الحرب مع الأسف) قال (استاذ قابل احنا كتاكيت حتى نشق قشورنا)
صاح المدرس( نعم هذا ما اقصده بالضبط عليكم ان تبدأوا حياة جديدة منتجة وتكسروا قيودكم فانتم مبدعون كل حسب مجاله). ثم قدم نفسه مبتسما بعد حبس الانفاس بأنه تخرج حديثا من اكاديمية الفنون الجميله/قسم المسرح واسمه فاضل سوداني.
ثم شرح لنا الواقع الانساني والواقع الاجتماعي وربط كل الواقعين بالواقع الفني مرورا بمعلومات تاريخية مهمة،عرف بعد برهة ان هناك في الصف من يهوى التمثيل ومارسه سابقا
اختار مجموعة جيده ومنهم انا لأخراج مسرحيتين مهمتين.. الاولى مسرحية (حفار القبور) للراحل الشاعر السياب وبما تحمل من افكار فلسفية ووجودية تخص انسان يعيش من خلال موت الاخرين ليعيش هو في سعادة دائمة.. والمسرحية الاخرى (انشودة انگولا) لبيتر فايس هذه المسرحية الثورية التي تحث على رفض الظلم والاضطهاد واستغلال الانسان للانسان بشكل تعسفي جائر هذه المسرحية كادت ان تطيح به لدائرة الأمن اذ كانت لديه حركة محدده وبغية مشاركة الجمهور باحداث العمل وزع قطع ملونة على حيطان قاعة العرض مكتوب عليها (هذا الرجل متكيف) كلف احد الطلاب بتوزيعها وبلصقها هنا وهناك وقبيل فتح القاعة للجمهور والمسؤولين راى مدير المدرسة احدى هذه القطع(هذا الرجل متكيف) تحت صورة رئيس الجمهورية الراحل احمد حسن البكر... سارع باتلافها باللحظة المناسبة واللا لذهب المخرج فاضل سوداني( بستين داهيه).
مسرحيات تقليدية
عملان مهمان حداثويان في هذه المدينة الصغيرة التي تعود جمهورها النبيل على المسرحيات التقليدية التي تعالج المشاكل الاجتماعية بطريقة كلاسيكية في نشاط مسرحي محدود ويكاد ينحصر في مديرية النشاط المدرسي وبعض الفرق في قاعة النشاط بتقنيات بسيطة اضاف فاضل سوداني عرضا لم يتعود عليه جمهور المحافظة ولكن في الحقيقة كانت الاستجابة رائعة وممتازة واستمر ثلاثة ايام وهذا رقم جيد لمسرحية باللغة الفصحى وبعرض حديث حتى ان مدير المدرسة (وكان يساري الهوى) قال لي هذه دعوة لحضور والدك العرض.. قلت له استاذ اصلا والدي رافض فكرة ان ادخل مجال التمثيل وتريده ان يحضر.. ان هذا مستحيل
قال.. لاعليك قل له المدير يؤكد حضــــــــــورك .
وفعلا اقتربت ليلة العرض ورأيت ابي قادما الى المسرح... قلت للمدير وهم باستقباله واجلسه في القاعة في الصف الاول قريبا لكرسي محافظ المدينة وكنت بطلا للمسرحية وحواري يتضمن كلامات ثورية كان الجمهور يقاطعني بالتصفيق كل مرة وانا اسرق النظر الكل يصفق الا ابي .
على اية حال رجعت للبيت بساعة متأخرة من الليل لكني رأيت ابي جالسا واضعا كفه على خده وشارد الذهن.. وقال لي غاضبا (الا تستحي انت امام المحافظ والناس وماخذ راحتك بالمسرح طول وعرض وانت افقر واهدأ اولادي. من اين لك هذه الوكاحة) وانا اضحك واعتبرت هذا اعجاب بي بدليل صباحا جاءتني والدتي وقالت لي ان والدك ترك لك دينار كامل في حين كان مصروفي اليَومي 100 فلس.
اصبح وجود فاضل سوداني غير مرغوب به في المحافظة ولكن ولغرض الخلاص منه ومن نشاطه الثقافي المثير للشبهات وبطريقة غير مباشرة تم نقله الى بغداد خرقا للوائح النقل الى العاصمة والذي كان صعبا تلك الايام خصوصا وان لم يكمل الخدمة القانونية اللازمة وهذا كان من صالحه .
والتحقت به لدى قبولي في اكاديمية الفنون الجميلة وكان قد سبقني بالعمل في فرقة المسرح الفني الحديث اذ التحق بها عام 1968.. اشترك في مسرحية (البستوكه) تاليف بيراندلو.. تعريق.. عبدالجبار عباس واخراج سامي عبدالحميد
كذلك مسرحية (النخلة والجيران) تاليف غائب طعمه فرمان اعداد واخراج قاسم محمد. قدمت على المسرح القومي َوكان بدور الشقاوة ابن الحوله على احسن وجه حتى قال عنه مسوول الدراسات الهنگارية ساندور كبرشوتوني (عجبني ممثل دور الشقي ابن الحوله وجعلني اكرهه تماما لأنه اجاد بدوره وهو ممثل جيد لأني اعتقدت فعلا انه شقي في تقمصه للشخصية..) كما اشترك في مسرحية (القربان) لغائب طعمه فرمان اعداد الكاتب ياسين النصير اخراج فاروق فياض.وقد شرع باخراج عمل من المسرح الصيني وبداء بالتمارين الا ان قبوله بالدراسات العليا في دولة بلغاريا حال دون انجاز العمل.مارس نشاطه هناك في الدراسة والمشاهدة في المسرح الاوربي المتقدم وحصل على شهادة الدكتوراه بالاخراج من اكاديمية جامعة صوفيا .
الف العديد من الكتب وترجم البعض منها ودرس الفن في جامعات بلغاريا والجزائر وليبيا والعراق.حصل جوائز عالمية عديده ،باحث في الطقوس الدرامية في جامعة كوبنهاگن
اقام ورشة نتج عنها عرض مسرحي في الذاكرة البصرية لجسد الممثل وعلاقتها بفضاء العرض المسرحي في المسرح الوطني الجزائري .مازال فاعلا في اختصاصة في كثير من البلدان .ولابد من التذكير ان اسم والده (سوداني) وليس السوداني كما يضن البعض من الفنانيين.