فهم يتجدد لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود: 114]. لاح في أفق تفكيري و تدبري لهذه الآية الكريمة، وما سُميت آية إلا دعوة كريمة من الكريم المطلق الأبدي، وهو الحق سبحانه، إلى مائدة الأفكار التي يُدعى إليها أولو الألباب من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات، لتقتات القلوب من هاته المعاني الذوقية اللذيذة معنى، الراقية مضمونًا، المطرَّزة مبْنى، كما هو الشأن في بناء الآيات القرآنية. وهذا ما جعلني أكتب حول هذا الموضوع الذي يُعد استثمارًا معنويا في أسواق التجارة التي لا تبور، بشكل جميل لا يُضاهى.
لفهم المقصود، لنرجع بتفكيرنا إلى أنواع الروائح الكريهة في تاريخ البشرية، وأساليب البشر في مكافحتها من أجل عيش يوم هنيئ. فلا شك أن الإنسان في حياته اليومية عبر التاريخ، ومنذ القدم، يتعرض لمواقف مختلفة، إما بتصبب عرق متراكم يؤذي الجالسين على نفس المائدة، أو التعرض لروائح كريهة من حيوانات ميتة أو فضلاتها. كما أن الفضاءات المغلقة أيضًا تجتمع فيها الروائح الكريهة التي تتراكم بشكل قد لا يُطاق.
وبسبب كل ما سبق، اجتهد الإنسان منذ القدم في اختراع وإبداع أجود أنواع العطور ليُقضي على ما يُسيء رونق حياته اليومية، ليحيى حياة هنيئة طيبة.
إذا تأملنا أنواع العطور اليوم، ستجد منها ما هو خفيف لمجرد الانتعاش اليومي، ويغطي ويستر المستور ولا يزيله من الجذر (Body Mists). ولإزالة الروائح الكريهة بقوة، يمكن استخدام المسك أو العنبر، وهي تدخل ضمن (Parfum Oils). ولروائح الطعام الكريهة، تُستخدم في الغالب عطور (Dior Sauvage).
وقد سقتُ هذه الأمثلة لِنُشخِّص الفهم العميق للحديث النبوي الشريف:
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال:
«مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ كَحَامِلِ المِسْكِ وَنَافِخِ الكِيرِ، فَحَامِلُ المِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا مُنْتِنَةً» (متفق عليه).
فبتحليل دقيق، مع استحضار ما سبق، سيُحيلنا ذلك إلى أن الحسنات درجات في فاعليتها بنحو السيئات، بحسب نية العبد وإبداعيته في تنزيل تلك النية على أرض الواقع. ولهذا اختلف الأنبياء في مقاماتهم، وتنوع الأولياء في درجاتهم، وتفاقمت دركات أهل الكفر والنفاق -والعياذ بالله-.
فلا شك أن التصورات تبتدئ بفكرة، وهي النية، ثم بعد التصور يأتي التنزيل الواقعي لذلك التصور. فنجد أن المخترع نزل فكرة صنع طائرة من مجرد تصور، أو صنع عجلة كانت سبب تقدم البشرية في كل ميادين تقدمها؛ لأن العجلة كانت عند بعض العلماء من أهم الاختراعات في تاريخ البشرية. حيث لا يختلف اثنان في أن سهولة التواصل بين بني البشر تعتمد على سهولة باقي الاختراعات مهما تنوعت؛ لأنه لولا العجلة لما تمكنوا من استحضار المواد الأولية لأي اختراع آخر.
عالم السموم وإيجاد ترياق لها بحر عميق لمن تبحر فيه، حيث إن أنواع السموم ودرجات فعاليتها تختلف -ولا شك حسب الأطباء- فمنها ما يسبب شللًا للأعضاء، ومنها ما ينتج اختناقًا تنفسيًا، كما أن منها ما قد ينتج عنه أمراض سرطانية أو مزمنة، وأخرى تسبب الموت في جرعات متوالية، ومنها ما قد يقتل فورًا.
في المقابل، فإن العقل البشري طور أنواعًا من الترياق ضد كل هذه الأنواع من السموم، حيث طور الإنسان أنواعًا من الترياق الكيميائي الذي يحول السم إلى فيتامين (B12)، ومنها ما يسهل إخراج السموم من الذات الإنسانية، ومنها ما يزيل تراكم السموم الزئبقية في جسم الإنسان، كما أن هناك من أنواع الترياق ما يخلص الجسم من السموم بإخراجها من الكبد.
والحديث في ذلك عند أهل الاختصاص يطول، وقد أخذنا منه ما يفيدنا لفهم المقصود في ارتباطه بحديثنا عن إكسير الخير، وفعالية درجات الحسنات في إذابة السيئات وإزالة روائحها المعنوية الكريهة بعطر أعمال الخير المتباينة في درجاتها.
يقول الحق سبحانه في الآية الكريمة، والقانون الكوني الرهيب في جماليته والغني بمعانيه الذي يأخذ بالألباب:
﴿وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 21].
ليس المقصود -في نظرنا- في تفسير هذه الآية هو شرح التباين الحاصل بين الحياة الدنيا والآخرة، بقدر ما أن القصد هنا يتمحور حول أعمالنا المرتبطة باهتماماتنا اليومية، سواء كان دافعنا إليها دنيويًا أو أخرويًا. هذه الدوافع والنوايا والتصورات القبلية هي ما يجعل التفاضل كبيرًا في نتائجها. هذا التفاضل والتباين يكبر كلما تعلق بهدف سماوي أخروي، ويصغر كلما كان مرتبطًا بما هو أرضي دنيوي.
وما سُميت الدنيا -في نظرنا- إلا لصغر ودناءة نتائجها، وما ارتبطت الآخرة بما هو سماوي غيبي إلا لسمو وعلو درجاتها ومقاماتها علوًا كبيرًا. وضرب الله مثالًا على ذلك اصطفاء مريم عليها السلام اصطفاءً جوهريًا ليُحيلنا إلى أهمية مفهوم الجوهر والأخلاق الطيبة وفاعليتها في إزالة السموم المعنوية.
يقول تعالى: ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 42].
وهو ما يشبه قول الرسول ﷺ في الحديث النبوي الشريف:
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ:
«عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا. وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا» (متفق عليه). إن كل متدبر في الآية الكريمة والحديث النبوي الشريف سيتبادر إلى ذهنه الارتباط الوثيق بينهما في أن تكرار الأشياء في الحياة اليومية يمكن من إتقانها وتمكينها واستقرار أثرها في قلب الإنسان، سواء في جانبها الإيجابي أو السلبي. وهو قانون الاصطفاء في جانبه الإيجابي أو السلبي، فمن كل شيء خلق الله زوجين اثنين، فلينظر كل أحد في أي شق أراد أن يصطفي ويختار بضم الياء.
وختامًا، فإن ما يزيل السموم القاتلة بترياقاتها الكيميائية يُحيلنا إلى درجات وفاعلية الترياق المعنوي في إزالة كل دركات السموم المعنوية من حقد وكره ونفاق وغفلة وفتنة وأمراض اجتماعية، بأعمال القلوب التي هي التصورات القبلية لكل أعمال الجوارح. فالتوبة والأوبة إلى الله تعالى دافع قوي للإبداع في الأعمال القلبية الأخرى من حلم وصبر ومحبة وشوق وإيثار وتدبر وتعقل، يورث الحكمة التي هي كيفية تنزيل الآية والقانون الكوني على أرض الواقع لكل مؤمن في حياته اليومية. ولا يتأتى ذلك إلا بفهم وفقه ووعي عن الله عز وجل، الذي به يحقق الإنسان المؤمن القصد من خلقه في هذا الكون.