خطاب الكراهية .. شرارة الفوضى
منتصر صباح الحسناوي
في كل أزمة تمر بها المنطقة العربية، يخرج خطاب الكراهية من مكامنه كوحش متربص، ينتظر اللحظة المناسبة ليبث سمومه في المجتمعات، وكأن الدماء التي سالت في الحروب السابقة لا تكفيه، ليستمر البعض في استدعاء الماضي وتحويله إلى سلاح جديد يُستخدم في معارك اليوم .
بعد العدوان الصهيوني على غزة ولبنان، وما تبعه من تطورات سياسية في سوريا، لم تكن الانقسامات السياسية مجرد وجهات نظر، بل تنامت مع تأجيج اعلامي ممنهج إلى صراعات افتراضية بين المجتمع. التكنولوجيا الحديثة اداة فاعلة وسلاح جديد تعدى الحدود الجغرافية أمام انتشار الكراهية، بل أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي ساحة مفتوحة لحروب كلامية لا تهدأ، حيث يتداخل التاريخ مع الطائفية والمذهبية في خليط متفجر، ينتج عنه مزيد من الفوضى والعنف .
ولم يكن الإعلام التقليدي بعيداً عن هذه الفوضى، بل كان له دور كبير في تعميق الخلافات ايضاً، فمنصات الأخبار والبرامج الحوارية وحتى بعض الاعمال الفنية أصبحت ساحات لتبادل الاتهامات، وتحويل القضايا السياسية إلى معارك دينية وعرقية تغذي الانقسام وتعزز العداء.
والمفارقة أن القوى الإقليمية والدولية المستفيدة من هذه الفوضى لم تكن بحاجة إلى التدخل المباشر، فما عليهم الا اشعال الشرارة لتتكفل الشعوب نفسها بتأجيج الأوضاع وإشعال الفتن ضد بعضها البعض. فأصبح العداء ليس فقط ضد العدو الحقيقي، بل تحول إلى عداوات داخلية تفتك بالمجتمعات وتضعف قدرتها على مواجهة التحديات الكبرى.
صراعات عقيمة
وبينما تتقدم الدول الأخرى نحو المستقبل، يبدو أن بعض الدول العربية لا تزال تدور في حلقة مفرغة من الصراعات العقيمة، التي لا تخدم إلا من يريد إبقاءها في حالة ضعف مستمر.
لكن السؤال الذي يجب أن يُطرح بجدية: كيف يمكن الخروج من هذا المستنقع؟
وهل يمكن مواجهة خطاب الكراهية بإجراءات حقيقية وواقعية بدلاً من الاكتفاء بالشعارات المثالية؟
لا شك ان الحل يبدأ بتفعيل القوانين التي تُجرّم خطاب الكراهية والتحريض الطائفي، اذ لا يمكن ترك المجال مفتوحاً لمن ينشر الفتنة دون محاسبة.
فمعظم الدول العربية تمتلك قوانين واضحة تمنع التحريض على العنف والكراهية، لكنها للأسف لا تُطبَّق بالشكل الكافي، أو «تُستخدم بانتقائية».
إن فرض هذه القوانين بصرامة على «جميع الأطراف» دون تمييز يكون الخطوة الاولى للسيطرة على هذا الخطاب ، فلا يُمكن السماح لأي وسيلة إعلامية أو منصة إلكترونية بنشر محتوى يثير الفتنة دون أن تواجه عواقب قانونية رادعة، كما يجب أن يكون هناك تنسيق بين الدول لمراقبة المحتوى التحريضي، خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت المصدر الأول لنشر الأخبار الكاذبة والتحريض المباشر على العنف.
القوانين وحدها لا تكفي
لا بد من إعادة تشكيل الوعي المجتمعي، فحتى لو تم تضييق الخناق على الخطاب الطائفي في الإعلام والسياسة، فإن العقلية المجتمعية ستظل مستعدة لتقبله، ما لم يكن هناك دور واضح للنخب الثقافية «المعتدلة» في إعادة تشكيل الوعي المجتمعي.
المثقفون والإعلاميون وقادة الرأي يتحملون مسؤولية كبرى في تقديم خطاب بديل، يقوم على الاعتدال ونبذ التطرف، ويكون قادراً على مواجهة الفكر التحريضي، لا بمجرد الوعظ والتنظير، بل بطرح رؤية واقعية تقدم حلولاً حقيقية للمشكلات القائمة.
تفكيك خطابات
المؤسسات التعليمية والثقافية أيضاً يجب أن يكون لها دور أساسي في تعزيز قيم التعايش، وتفكيك الخطابات المتطرفة عبر تقديم محتوى يدعم المشتركات الإنسانية، بدلاً من التركيز على الانقسامات التاريخية والطائفية.
تكامل المسؤولية
إن مواجهة خطاب الكراهية ليست مسؤولية الحكومات وحدها على الرغم من انها المسؤول الاول في المواجهة ، بل ان المسؤلية تكاملية لا تكون الا بمشاركة « الأفراد، والمجتمع المدني، والمؤسسات الدينية والإعلامية» الجميع شركاء في هذه المهمة.
فكل فرد في المجتمع لديه دور في الحد من انتشار هذا الخطاب، سواء بعدم التفاعل مع الأخبار التحريضية، أو بنشر الوعي بين المحيطين به. المؤسسات الدينية عليها أن تكون أكثر وضوحاً في مواقفها الرافضة للطائفية، مع تحجيم مدعيه من المنتفعين الذين يستخدمونه حين يحتاجون إليه، ثم يتخلون عنه حين تنتهي مصلحتهم.
في نهاية المطاف، فإن المعركة ضد خطاب الكراهية هي معركة بين من يريد أن يبني مستقبلاً أفضل، ومن يريد إبقاء المجتمعات أسيرة لماضيها الملتهب.
والاختيار ليس قراراً سياسياً فقط، بل هو قرار مجتمعي يبدأ بسؤال هل نريد أن نظل ندور في دائرة الكراهية والعداء؟ أم أننا مستعدون للخروج منها، والبحث عن مستقبل مشترك يقوم على الاحترام والتعايش والتعاون؟
العالم لا ينتظر أحداً، ومن لا يدرك أن زمن الصراعات العبثية قد انتهى، سيجد نفسه متأخراً عن الركب، يراقب الآخرين وهم يتقدمون، بينما يظل هو عالقاً في متاهات الماضي.
انظروا لأولادكم واكتبوا مستقبلهم بايديكم .