لا أصدق تلك القصة التي تتحدث عن أصل “الصمون” على أنها تعود إلى خباز أرمني اسمه “سيمون” كان يخبز خبزًا على الطريقة الأرمنية، فأصبح العراقيون أو البغداديون يسمونه “صمون”. الصمون عراقي وبغدادي، وإذا كانت الـ”جا” بالجيم الفارسية والمشحوف بالأنف المعقوف النازي سومريتين، فالصمون سومري كذلك.
الصمون العراقي وجبة كاملة، تمنح الشبع وتشيع تفاؤلًا سريعًا يسري كدفء لذيذ لا يُعرف مصدره. قد يكون هذا المصدر هو حكاية الحجر المدفون في النار، ومنه أتت تسمية “الصمون الحجري”. ولو كنت محكومًا بالإعدام وخيروني بأمنية أخيرة، لجعلتها ثلاثًا: جكارة ديموريه سن طويل، وكأس ويسكي من نوع لوغان أبو الحصان، وصمونة حجرية، شريطة خروجها من فرن الحياة تواً.. وأبوكم الله يرحمه.
ورغم أن الصمون وجبة مكتفية بذاتها، فإن العراقيين يتفننون في الإضافات. كنا صغارًا، في “الإيتين أيجز”، نعبر سور المدرسة للحصول على لفة صمون وحمص مسلوق (لبلبي)، وهو عراقي سومري أيضًا رغم أنف الأكاديميين. في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، كنت أذهب إلى الكويت بداعي التجارة والاستيراد فيما كانت البلاد تئن تحت وطأة الحرب. كان حلم السفر مستحيلًا والتجارة أكثر صعوبة واستحالة، لكني ابتكرت طريقة للذهاب وعبور الحدود بصفة سائق “جمسي”. هناك، كان من يبيعني شرابي الثقيل بمبالغ عالية، وأخرج ليلًا للبحث عن اللبلبي. سألت واحدًا واثنين عبثًا، حتى جذبني نيون يضيء إعلانًا: “نخي وباجلة”، فعرفت أنهم يسمون اللبلبي “نخي”. لم أهادن أو أساوم، بل قلت للبائع: أعطني صحن لبلبي سومري.
وهناك أيضًا معادلة سومرية أخرى، اشترك في اختلاقها ثلاثة أرباب: الصمون، والقيمر، والعسل. خلطة سحرية عرفتها بغداد قبل مطاعم الصدرية بعقود. تذكرني هذه الخلطة بذلك الرجل الذي كنت أجده ينتظر عند باب بيتنا في باب الأغا. تكلفني أمي، وأنا لم أبلغ السادسة بعد، بالخروج للرجل واستلام قارورة عسل إنجليزي وصحن قيمر وصمون سومري ساخن. كان يبتسم، فأتأمل شعره الأشقر أو الأصهب.
كان لأبي عدد من العمال يعاونونه في إدارة عمله، في دار الأهالي أو دكان القرطاسية والنستلات وبطاقات اليانصيب والصحف والمجلات عند مدخل شارع السموأل. منهم ثلاثة: عُدّاي وسوادي وعيسى، والثلاثة تمتد أصولهم إلى لواء العمارة، ثم إلى مدينة الثورة لاحقًا. ذلك الرجل الذي كان يحمل لنا القيمر والعسل، كان أخًا لعُدّاي، وكانا في خصام دائم. نسيت اسمه، لكني أذكر كنيته لاحقًا: “أبو خالد”، ولتلك قصة أخرى.
من غرائب الأمور أن عُدّاي وسوادي كانا بعثيين، أما عيسى (رحمهم الله جميعًا) فكان شيوعيًا، أو يدّعي ذلك، كما كان يدّعي أيضًا كونه ابن عم ناظم كزار. رغم هذه اللوثة الغريبة من الانتماءات، فإن الثلاثة أو الأربعة ظلوا أوفياء لذكراه، فعاشوا معنا أكثر مما عاشوا مع أبي. تنتاب عُدّاي نوبات عصبية، أو جنون بالأحرى، فيغيب ثم يظهر منهكًا فارغ الذاكرة، لا يردد سوى لازمة: “الله يرحمك عمي رحيم”، قاصدًا عبد الرحيم السعداوي بالطبع. أما سوادي، فتدرّج في صفوف حزب البعث حتى أصبح عضو شعبة، وامتلك بيتًا في كركوك عندما أمر صدام بتعريبها. لكن مشكلته كانت العرق، السومري أيضًا.
كل هذا جعل علاقتنا ملتبسة، فهو البعثي الذي نكره، وهو يتدهور ويتدحرج، مرة بسبب الإدمان، وأخرى بسبب اللعب بالسلطة والفلوس. أتذكر عينيه اللتين تحولتا إلى عيني ذئب نافق بسبب تشمع الكبد. مات الثلاثة مبكرين، ربما آخرهم عيسى، وقد صار صديقًا مقربًا لي، فأدخلته في دائرة صداقاتي، وكان يلقبني تحببًا، لأمر أجهله، بـ”أبو حسن”، وكنت أحب ذلك.
عيسى كان يعمل “بوزرجي” في محطة تعبئة وقود. هل اسمها “الخالصة”؟ يا إلهي، كيف سقط اسمها من السماء؟ أصيب عيسى بسرطان المثانة، وقيل وقتها إنه بسبب عوادم السيارات والعيش مع البنزين لعمر كامل من الخيبات. تفاقم مرضه مع شدة القصف الإمبريالي على العراق عام 1990. زرته آخر مرة، وربما أعطيته شيئًا من المال، لكنه أمسك بيدي قائلًا: “لا تعوفني أبو حسن، بروح رحيم”. لكني تركته، هاربًا بعائلتي الكبيرة صوب كربلاء. عندما عدنا، كان عيسى قد مات.
المكتبات أفران أيضًا، والكتاب الجيد هو بمثابة صمونة حجرية تأكلها بلا إضافات، وكأنها حبة زانكس، فتتصاعد في روحك التعيسة مشاعر إيجابية، تشبه كثيرًا أحاسيس الاكتفاء الجنسي بعد علاقة ساخنة. لكني قررت الحياة مؤخرًا بعيدًا عن الكتب، أو – صدقًا – أقرأ لأعمّق قطيعتي مع “الثقافة”. أحيا حياة بوهيمية نظيفة من الأصدقاء، أميل للعلاقات السريعة مع أناس لا يعرفونني، أتحدث معهم بلا تصنع وبلغتهم.. ومن قال إنها ليست لغتي؟
وهناك من منعني من الصمون الحجري، فأخذت بشراء العيش اللبناني الأسمر. لكني في الليل، مرتديًا قناعي، وربما عاريًا على سجيتي، ألتقي مع غرباء لنلعب الدومينو. ألعبها بحجة كونها لعبة فلسفية، وليست لعبة “حمّالين”، كما يقول أحد الأصدقاء. وهي اللعبة الوحيدة التي أعرفها وأفضلها على الشطرنج، وأعتقد أنها تستلزم ذكاءً أو انتباهًا لا يقل عن ما يلزم في الشطرنج.
في الاستراحات بين جولتي لعب، يوصي أحد الأصدقاء بوجبة من مطعم بالشواكة.. وجبة كباب لا يليق إلا بالجنة، مع طماطم وبصل مشويين، وباقة من رشاد البر، تتمايل ذابلة كراقصات باليه، وكيس صمون حجري أو سومري، يتنفس بخار الصمون فيكاد يثقب قلبه. تنهار عندي توصيات أو نصائح الأطباء، أمسك بصمونة، أختارها سمراء مثل طالبة جامعية نزلت تواً من قرى الجنوب، أجدها منفوخة، ليس من الغرور، بل لفرط الكرم، فسرعان ما تفتح روحها، أو دفتيها، أو ردفيها – قولوا ما شئتم.
ألقمها بشيش كباب يذوب في الحلق، مع ربع طماطم مشوية، وأمسك بمجموعة راقصات الباليه – سيقان الرشاد المغناجة – أأكلها، أشعر بالاكتفاء، لم أعد بحاجة لكأس أو زانكس أو جنس. أصعد على قمة الأولمب قليلًا مع آلهة أغبياء، أهبط فأفوز بلعبتي الفلسفية، أعود، أقود السيارة، نجاة الصغيرة تغني: “من يومي مظلومة”. أضحك، فأقول: بل أنت الظالم.
أختم بالقول: نجحت أيضًا في قتل هذا اليوم من غير القبض عليّ. سأنتظر يومًا آخر يخرج من فرن الحياة كصمون حجري.