ملحمة شاهد المعنى.. العزلة التدوينية و الحفاظ على التاريخ
سامية نهاد
في عمق الألم، حيث اشتد القتال وصهلت الخيول تحت لهيب الشمس، عاش الإمام (علي بن الحسين) لحظات معركة الطف في عزلة قسرية، قعيدًا على فراشه، محجوزًا بين جدران الخيمة، لا يملك سوى السمع نافذةً تطل على المذبحة. لم يك حضوره في المعركة جسديًا، لكن روحه تحوم في ساحة الفجيعة، تلتقط أصواتًا متقطعة من نواح النسوة، وصليل السيوف، ووقع الخطوات الثقيلة التي لا تعود.
الطفل (محمد الباقر)، الذي لم يتجاوز الثالثة من عمره، كان رسول المشهد إلى والده. عيناه الصغيرتان تستوعبان ما لا يطيقه قلب بشر، فيركض إلى أبيه ناقلًا تفاصيل لا يدرك حجمها، لكنه يشعر بفداحتها. في تلك اللحظات، لم تك ذاكرة الإمام السجاد إلا جسرًا متصلًا بين الأصوات والصور، تجمّدت عند مشهد لم يبارح وجدانه أبدًا: دخول الحسين مودِّعًا، تصحبه السيدة زينب، التي التمعت في عينيها أسئلة لم تجد لها إجابة.كان الحسين يعرف أن ابنه السجاد هو ذخر بيت النبوة، الامتداد الباقي للرسالة، الصوت الذي سيحمل شهادة الدم إلى الأجيال القادمة. في تلك اللحظة، لم يك الوداع عاديًا، بل ايداعًا للأمانة، وضع التاريخ بين يدي من سيحفظه في ذاكرته، ومن سيحوله لاحقًا إلى مدونات الخلود، في خطبٍ ستغدو شواهد على الموقف، وشعلةً تنير دروب الثائرين.في عزلة الإمام السجاد، خُلِّدت الطف ليس كواقعة دامية، انما حالة شعورية،نصٍ مفتوح على الحزن والاحتجاج، وصناعة للموقف الإنساني الذي لا يفنى.في الملاحم الإغريقية، يؤدي الكورال صوت الجماعة، الحكيم الذي يراقب الحدث دون أن يتدخل، المتأمل الذي يسرد ما لا يراه البطل، ويكشف أعماق المأساة من زاوية لا يطالها الفعل. في (شاهد المعنى)، يعيد الكورال تشكيل واقعة الطف، دون الوقوف عند حد التأريخ، يصبح ضميرًا جمعيًا، ينقل ارتعاشات الألم وصدى الفجيعة، ويتحول إلى مرآة تعكس الحقيقة العارية التي حاول الزمن طمسها.بينما الإمام السجاد قعيدًا في خيمته، تستقر المأساة بين أضلاع الكورال، الذي ينشد بصوت متصاعد، كأنما امتداد لنواح النسوة في الخيام، أو لصليل السيوف التي تتلاقى في الخارج. الكورال يحاكي رعب الطفل (محمد الباقر) وهو ينقل الأخبار إلى أبيه، يردد كلماته بوقع ثقيل، كمن يحاول إيقاف الزمن عند لحظة الفقد،ليحفر الألم في وجدان المتلقي حتى لا يضيع في غبار الأيام.يبدأ الكورال من الداخل، من تلك الخيمة التي تحبس الإمام السجاد بين العزلة والعجز، ليصبح صوته الداخلي مسموعًا عبرهم. يسردون اضطرام روحه، صراخه المكبوت، انفعاله الذي لا يجد سبيلًا للخروج. ثم ينتقلون إلى ساحة المعركة، حيث الحسين يودّع، حيث زينب تسأل بصمتها، حيث الفرسان يحيطون بالشمس الأخيرة التي ستغيب عن الوجود.وفي النهاية، يرتفع صوت الكورال ليعيد إنتاج الحقيقة الكبرى: أن ما جرى في الطف لم يك مجرد معركة، إنما موقف خالد، تتكرر أصداؤه في كل زمان، حيث يقف الإنسان بين الاستبداد والحرية، بين الذل والكرامة، بين الصمت والكلمة.
تحول الكورال في (شاهد المعنى) إلى جسر بين الأزمنة، يحفظ المأساة من النسيان، ويدفع المتلقي إلى استعادة المشهد ليس بوصفه ذكرى بعيدة، بل حقيقة تعيش بيننا، تتجدد مع كل ظلم، وتعود للحياة مع من يبحث عن الحق وسط العتمة.في الملحمة، لا يكون الكورال مجرد راوٍ للأحداث، بل كيانًا ينبض بالحزن والتأمل، صوتًا يتردد بين أزقة الزمن، شاهداً على الكارثة، ومفسراً لأبعادها. في (شاهد المعنى)، يتجاوز الكورال دوره التقليدي كجوقة تردد الأناشيد، ليصبح لسان حال العزلة، وشاهدًا على لحظات الطف التي صنعت الموقف.
حين قعد الإمام السجاد في خيمته، ، يتأمل صوت المعركة عبر صراخ النسوة ونحيب الأطفال ووقع سنابك الخيل، ظل الكورال يردد ما عجز عن البوح به. بصوت غنائي عميق، أشبه بأنين الأرض المبتلة بالدم، يستعيد مشهد دخول (الحسين) مودِّعًا، كأن الزمن يُجبر على إعادة اللحظة مرارًا.
(الكورال يصدح)
يا ليل الطفِّ، هل كنتَ تعلمْ؟
أن الشمسَ تُطفأُ في منتصفِ النهار؟
يا أرضَ النهرين، هل كنتِ تعرفينْ؟
أن الماءَ سيُمنعُ عن ريحانةِ المختار؟
، يأخذ الكورال دور المتسائل، لكنه لا ينتظر إجابة، يترك الأسئلة تتكاثر، لتصبح أصداءً تصطدم بوجدان المتلقي، مثل صدى خطوات (الحسين) وهو يغادر الخيمة الأخيرة مودعًا السجاد.حين يعلو صليل السيوف، يخفت صوت الكورال لحظة، كأنما يحبس أنفاسه، ثم ينفجر فجأة، متحولًا إلى نشيد جنائزي تتداخل فيه الأصوات، تمامًا كما تداخلت الأرواح في ساحة الطف، بين من يصارع للبقاء، ومن يسير نحو الفناء بقدم ثابتة.
(الكورال ينشد)
حُرمنا الماءَ
لكن الدماءَ تفجّرتْ
صرخةٌ تصعدُ إلى السماء
وأخرى تدفنُ في التراب
أماه، أينَ أبي؟
في الريحِ، في النهرِ، في الأبديةِ!
ومع دخول المساء، حين سكن كل شيء إلا الريح التي كانت تجر جثث الأحبة، يخفت الكورال، كأنما يوشك على الرحيل، لكنه لا يصمت تمامًا، بل يترك همسًا أخيرًا، أقرب إلى نشيج الزمن الذي لن يشفى أبدًا من هذه الفاجعة.
(الكورال يهمس)
ما زالت الريحُ تروي
ما زالت الأرضُ تبكي
وما زالَ السجادُ يحفظُ الحكايةْ.
بهذه البنية، لا يكون الكورال مجرد مكمّل درامي، بل روحًا تتغلغل في عمق النص، تحفظ المأساة من التحوّل إلى مجرد حادثة تاريخية، تعيدها إلى الحياة مع كل همسة، مع كل سؤال بلا إجابة، ومع كل عين تقرأ أو تسمع شاهد المعنى.في ختام (شاهد المعنى)، يبقى الكورال الإغريقي شاهدًا على تواصل الذاكرة، وعلى قدرة الفن الأدبي على تجسيد المأساة وتخليدها عبر الأزمان. في ملحمة الطف، لم تك الأحداث مجرد سرد خطي، بل تحولت إلى لحظات خالدة تتردد في ضمير الإنسانية، تعيدنا كلما قرأناها إلى مواقف الظلم، الشجاعة، والتضحية.كما أن الكورال في المأساة الإغريقية يغني ليحفظ التاريخ، فإن( شاهد المعنى) يعيد تشكيل الصوت الجماعي ليحمل على عاتقه حمل الفاجعة التي لم ينساها التاريخ، جعلها حية في كل كلمة، في كل لحن، في كل صورة. الصوت الذي ينبعث من داخل المعركة، من داخل العزلة، لا يعكس فقط المأساة التي عاشها الإمام السجاد، يظل يرافقنا في كل خطوة، في كل تحدٍ، وفي كل لحظة تجدد فيها الروح البشرية تمسكها بحقيقة الحق والعدل، يظل الصوت الصامت، الذي ينشده الكورال، أصداء لم تُطفأ، يعيد طرح الأسئلة التي لن تجد جوابًا سوى في نفوسنا. (شاهد المعنى) ليس شهادة على أحداث عاشها فرد، إنما شهادة على موقف إنساني كوني، يتجدد عبر الأجيال، تظل الذاكرة تحفظه، ليس كواقعة تاريخية، بل رمزاً للأمل في وجه الظلم، وللصمود في وجه الاستبداد، وللحب الذي يبقى أبديًا رغم كل شيء.