رواية قصيرة جدا
الوداع الاخيـــــــــــر
سعيد الوائلي
نَظَرَتْ حَمِيدَةٌ مِنْ نافِذَةِ القِطارِ المُتَّجِهِ إِلَى البَصْرَةِ، كانَتْ الصَحْراءُ تَتَلَأْلَأُ عَلَى مَدِّ البَصَرِ بِاللَوْنِ البُرْتُقالِيِّ النارِيِّ وَاللَوْنِ الأَحْمَرِ المُحْتَرِقِ وَالأَصْفَرِ بَعْدَ أَنْ قَدَحَتْها الشَمْسُ بِأَشِعَّتِها الخُجُولَةِ الناعِسَةِ، مَعَ وُجُودِ القَلِيلِ مِنْ الشُجَيْراتِ المُنْتَشِرَةِ هُنا وَهُناكَ، أَصْبَحَتْ الأَلْوانُ أَقَلَّ إِشْراقاً عِنْدَ اِنْحِدارِ الشَمْسِ، وَالسَماءُ الزَرْقاءِ اِكْثَرْصَفاءاً وَزُرْقَةً، وَأَشْجارِ النَخِيلِ أَكْثَرَ اِخْضِراراً خَلْفَ الأَسْيِجَةِ المُسْرِعَةِ بِجِوارِ سَرِيرِ السِكَكِ الحَدِيدِيَّةِ.
كانُوا فِي مَكانٍ ما بَيْنَ السَماوَةِ وَالسِكَّةِ المُمْتَدَّةِ إِلَى البَصْرَةِ، زَوْجِها الشابِّ، الَّذِي عادَ مُؤَخَّراً مِنْ مَعارِكِ الدِفاعِ الشَرِسَةِ، سَقَطَ بِجانِبِها وَهُوَ يَشْخُرُ، كانَ غَيْرَ حَلِيقِ اللِحْيَةِ مَعَ تَجَعُّدِ قَمْصِلَتِهِ العَسْكَرِيَّةِ الخاصَّةِ بِهِ مَرْمِيَّةً بِجانِبِهِ، وَقِلادَةُ عُنُقِهِ مَكْتُوبٌ عَلَيْها اِسْمُهُ الكامِلُ "سامِر جَبّار الغَرِيبُ" بِزَخْرَفَةٍ مِنْ الخَطِّ العَرَبِيِّ تَخْتَلِسُ النَظَرَ مِنْ خارِجِ قَمِيصِهِ العَسْكَرِيِّ، أَثارَ فُضُولَها اِسْمَ جَدِّهِ وَكَمْ تَمَنَّتْ لَوْ اِسْتَطاعَتْ تَغْيِيرَهُ، كانَ قَدْ وَضَعَ "بِيرِيتَهُ" عَلَى عَيْنَيْهِ، تَجَمَّعَتْ بِجانِبِهِ كُتْلَةٌ بَيْضَوِيَّةٌ سَوْداءُ، كانَتْ تَرْتَدِي فُسْتاناً قُطْنِيّاً سادَةً بِاللَوْنِ البِيجِيِّ وَحِذاءٍ خَفِيفٍ قَدْ بانَ خارِجَ عَباءَتِها المُتَدَلِّيَةِ، كانَتْ مُسْتَعْمَلَةً لِعِدَّةِ مَواسِمَ مِنْ الاِرْتِداءِ، غَطَّتْ القُمْصُلَةُ شَكْلَها الصَغِيرَ بِالكامِلِ، فِي السابِعَةَ عَشَرَ مِنْ عُمْرِها كانَتْ لا تَزالُ صَغِيرَةً جِدّاً، وَلا حَتَّى بِطُولِ خَمْسِ أَقْدامٍ، لِذٰلِكَ كانَتْ قادِرَةً عَلَى الاِلْتِفافِ عَلَى شَكْلِ كُرَةٍ صَغِيرَةٍ تَحْتَ قَمْصِلَتِهِ الكَبِيرَةِ الهادِلَةِ، لَقَدْ نَسِيَتْ الحَرَّ لِكَثْرَةِ ما قاسَتْ مِنْ بَرْدِ الشِتاءِ.
فاضَتْ مِنْ أَنْفاسِها عَلَى جُزْءٍ صَغِيرٍ مِنْ النافِذَةِ، وَمَدَّتْ يَدَها اليُمْنَى مِنْ تَحْتِ المِقْصَلَةِ لِتَرْسُمَ بِسُرْعَةٍ وَجْهاً سَعِيداً وَحُرُوفَ اِسْمِها، ح م ي، عَلَى النافِذَةِ بِإِصْبَعِها السَبّابَةِ، وَسُرْعانَ ما وَضَعَتْ ذِراعَها تَحْتَ القُمْصُلَةِ.
كانَتْ تُحِبُّ رُكُوبَ القِطارِ، لَقَدْ عَشِقْتْ صَرْخَةً حَزِينَةً مِنْ صافِرَةِ البُخارِ وَهِيَ طِفْلَةٌ، وَالقَرْعُ الإِيقاعِيُّ لِلعَجَلاتِ عَلَى القُضْبانِ، وَالطَرِيقَةُ الَّتِي تَتَمَوَّجُ بِها العَرَباتُ صُعُوداً وَهُبُوطاً، وَمِنْ جانِبٍ إِلَى آخَرَ، مِمّا يُعْطِي الجالِسِينَ، وَأَيُّ شَخْصٍ آخَرَ يَمْشِي فِي المَمَرّاتِ، حَرَكاتٍ كوميدِيَّةً، لِسُوءِ الحَظِّ، لَمْ تَنْتَهِي أَيٌّ مِنْ نُزْهاتِها عَلَى القُضْبانِ بِبَهْجَةٍ حَتَّى الآنَ، كانَتْ تَأْمُلُ أَنْ يَكُونَ هٰذا مُخْتَلِفاً.
كانَتْ رِحْلَتُها الأُولَى مَعَ والِدَتِها وَإِخْوَتِها الخَمْسَةِ إِلَى البَصْرَةِ قَبْلَ خَمْسِ سَنَواتٍ لِلعَيْشِ مَعَ والِدِها، كانَ سالِم غَدِيرٍ رَجُلاً صَغِيراً ذُو حالٍ فَقِيرٍ، لَمْ يَكُنْ قادِراً عَلَى العُثُورِ عَلَى عَمَلٍ ثابِتٍ فِي العاصِمَةِ بَغْدادَ، لَمْ يُشْغَلْ فِي أَيِّ عَمَلٍ مُثْمِرٍ، عَلَى الرَغْمِ مِنْ أَنَّ العَدِيدَ مِنْ المَناطِقِ فِي العاصِمَةِ قَدْ بَدَأَتْ فِي رُؤْيَةِ أَيّامٍ أَكْثَرَ كِساداً فِي نِهايَةِ الأَمْرِ، إِلّا أَنَّ العاصِمَةَ لا تَزالُ مُتَخَلِّفَةً عَنْ الرُكَبِ.
كانَتْ تَداعِياتُ الحُرُوبِ المَلْعُونَةِ لا تَزالُ تَتْرُكُ أَثَرَها الجَلِيَّ عَلَى مَدَى السَنَواتِ الخَمْسِينَ الماضِيَةِ، غادَرَ والِدُها المَنْزِلَ عدة مرات، وَجالَ فِي جَمِيعِ مُدُنِ العاصِمَةِ لِلعُثُورِ عَلَى بَعْضِ الأَعْمالِ المُثْمِرَةِ، لٰكِنَّ تَسْرِيحَ العُمّالِ كانَ شائِعاً، حَصَلَ أَخِيراً عَلَى وَظِيفَةٍ ثابِتَةٍ فِي مُحافَظَةِ البَصْرَةِ من قبل أَبْناءِ عُمُومَتِهِ، وَبَقِيَتْ عائِلَتُهُ فِي بَغْدادَ، كانَ يَأْتِي إِلَى المَنْزِلِ مَرَّتَيْنِ فِي الشَهْرِ، نَمَتْ الأُسْرَةُ إِلَى سَبْعَةِ أَطْفالٍ، وَعَلَى الرَغْمِ مِنْ أَنَّ سارَّة الكُبْرَى قَدْ تَزَوَّجَتْ مُؤَخَّراً، إِلّا أَنَّ سِتَّةَ أَطْفالٍ كانَتْ أَكْثَرَ مِنْ قُدْرَةِ سُهادٍ عَلَى التَعامُلِ مَعَهُمْ بِمُفْرَدِها، حاوَلَ سالِمٌ أَنْ يَظَلَّ واقِفاً عَلَى قَدَمَيْهِ فِي البَصْرَةِ، لٰكِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ إِدارَةَ نَفْسِهِ وَعائِلَتَهُ فِي بَغْدادَ، يَجِبُ عَلَى الأُسْرَةِ أَنْ تَتَحَرَّكَ، كانَتْ حَمِيدَةَ ثانِي أكبرالاِطْفالِ، وَتَبْلُغُ مِنْ العُمْرِ أَحَدَ عَشَرَ عاماً، تَأْخُذُ أَوَّلَ رِحْلَةٍ لَها بِالقِطارِ.
لَقَدْ نَشَأَتْ عَلَى مَرْمَى البَصَرِ مِنْ مَحَطَّةِ سِكَكِ الحَدِيدِ خَلْفَ المَحَطَّةِ العالَمِيَّةِ فِي عَلّاوِي الحُلَّةِ رَكَضَتْ فِي دَرابِينِها بِالقُرْبِ مِنْ المَنْزِلِ القَدِيمِ، كانَتْ مَحْظُوظَةً لِلعَيْشِ هُناكَ، لٰكِنْ حانَ الوَقْتُ لِتَرْكِهِ وَراءَها في الوقت الحالي.
تَحَرَّكُوا أَيُّها الأَشْقِياءُ سَنَفْتَقِدُ القِطارَ!
تُصارِعُ سُهادُ المُنْهَكَةِ بِالفِعْلِ حَقِيبَتَيْنِ صَغِيرَتَيْنِ تَحْمِلانِ كُلَّ ما يُمْكِنُ أَنْ يَأْخُذُوهُ مَعَهُمْ، اِعْتَمَدَتْ الأُسْرَةُ عَلَى أَجْرِ سالِم الضَئِيلِ فِي السَنَواتِ العَدِيدَةِ الماضِيَةِ.
لَقَدْ اِعْتَمَدُوا أَيْضاً عَلَى لُطْفِ الأُسْرَةِ وَخِفَّتِها، لٰكِنَّ ذٰلِكَ الوَقْتَ قَدْ حانَ لَهُ أَنْ يَذْهَبَ، عاشَتْ ذاتَ مَرَّةٍ مَعَ سالِم فِي البَصْرَةِ قَبْلَ بِضْعِ سَنَواتٍ، كانَتْ سارَّة وَحَمِيدَةُ الطِفْلَتَيْنِ الوَحِيدَتانِ في ذلك الوقت، تَوَسَّلَتْ خالَتَها زَيْنَب إِلَى سالِم لِلعَوْدَةِ إِلَى المَنْزِلِ، وَأَخَذَتْ عَلَى عاتِقِها في النهاية العَوْدَةَ بِأُسْرَتِهِ إِلَى بَغْدادَ؛ لِأَنَّها لَمْ تَرْغَبْ فِي وِلادَةِ طِفْلِها الثالِثِ بَعِيداً عَنْ العائِلَةِ.
سارَتْ حَمِيدَة حَوْلَ زاوِيَةِ المَنْزِلِ وَهِيَ تُوازِنُ الطِفْلَةَ الصَغِيرَةَ عَلَى وَرَكِها، وَتُمْسِكُ ماجِدَةً بِيَدِها، مَجِيدٌ أَمْسَكَ بِيَدِ نَصِيرٍ، أَنْتُمْ جَمِيعاً اِبْقُوْا قَرِيبَيْنِ مِنِّي وَمِنْ ماما، سَنَتَفَسَّحُ قَلِيلاً فِي حَدِيقَةِ الحَيَواناتِ القَرِيبَةِ، وَنُرْكَبُ الأَراجِيحَ هٰذا اليَوْمَ.
شَقُّوا طَرِيقَهُمْ فِي الشَوارِعِ البارِدَةِ إِلَى مَحَطَّةِ القِطارِ، قَطَعَتْ رِياحَ شُباطَ البارِدَةَ أَصابِعَهُمْ العارِيَةَ، وَتَناثَرَتْ القُمامَةُ فِي هَواءِ الصَباحِ الباكِرِ، اِخْتَلَطَتْ بُقَعٌ زَرْقاءُ مِنْ السَماءِ بِالسُحْبِ المُنْخَفِضَةِ الرَمادِيَّةِ، تَمَكَّنَتْ أُمُّها مِنْ نَقْلِ قُوَّتِها إِلَى مَكانِ القِطارِ المُتَّجِهِ جَنُوباً.
كانَتْ حَمِيدَةً مُبْتَهِجَةً بِرِحْلَتِها القادِمَةِ بِالقِطارِ، عَنْ قُرْبٍ بَدَتْ سَيّاراتُ الرُكّابِ الصَفْراءُ سِحْرِيَّةً لَها، قَضَتْ العَدِيدَ مِنْ الأُمْسِياتِ بَعْدَ العَشاءِ، وَهِيَ تُشاهِدُ القِطاراتِ وَهِيَ تَمُرُّ قَرِيباً مِنْ مَنْزِلِها فِي الأَضْواءِ الصَفْراءِ الباهِتَةِ لِسَيّاراتِ الرُكّابِ الَّتِي تَكْشِفُ عَنْ الظِلالِ مِنْ خِلالِ النَوافِذِ، مِنْ كانُو؟ إِلَى أَيْنَ هُمْ ذاهِبُونَ؟ لِماذا كانُوا فِي القِطاراتِ؟ الكَثِيرُ مِنْ الأَسْئِلَةِ.
"اُنْظُرْ، مَجِيدٌ هُناكَ مَنْزِلُنا القَدِيمُ!"
أَشارَتْ حَمِيدَة بِحَماسٍ، لَصَقَ الأَوْلادُ وُجُوهَهُمْ بِالنَوافِذِ، لَقَدْ كانَتْ تَجْرِبَةً رائِعَةً أَنْ أَراهُ مِنْ هٰذا الجانِبِ، بُدِيَ المَنْزِلُ أَصْغَرَ بِكَثِيرٍ بطريقة ما، لَقَدْ كانَتْ أَحَدَ الظِلالِ فِي القِطارِ، وَيُمْكِنُها أَخِيراً الإِجابَةُ عَنْ بَعْضِ الأَسْئِلَةِ العَدِيدَةِ الَّتِي طَرَحَتْها عَلَى نَفْسِها عدة مرات، تَرَكُوا بَغْدادَ وَراءَهُمْ، وَسُرْعانَ ما السَماوَةُ... عِنْدَما هَدَأَ الأَوْلادُ أَخِيراً، تَجَمَّعَتْ غُيُومٌ عابِرَةٌ مجددا لِخَلْقِ بانوراما أُحادِيَّةَ اللَوْنِ، تَشَبَّثَتْ بُقَعٌ مِنْ ماءِ المَطَرِ بِالأَرْضِ العَطْشَى عَلَى طُولِ الطَرِيقِ الصَحْراوِيِّ، وَأَصْبَحَ الماءُ القَرِيبُ مِنْ المَساراتِ باهِتاً وَرَمادِيّاً بِسَبَبِ سُخامِ المَساراتِ العَدِيدَةِ لِمُحَرِّكاتِ القِطاراتِ المارَّةِ، تَتَشَبَّثُ الأَوْراقُ الصَدِئَةُ وَالأَشْواكُ بِعِنادٍ بِأَخْشابِ السِكَّةِ البارِزَةِ، كانَ اللَوْنُ الحَقِيقِيُّ الوَحِيدُ فِي المَناظِرِ الطَبِيعِيَّةِ، تَعَفَّرَ حَمِيدَةِ النافِذَةِ بِأَنْفاسِها من جديد، تَتْبَعُها الأَحْرُفُ الأُولَى مِنْ اِسْمِها بِبُطْءٍ عَلَى الزُجاجِ البارِدِ ح م ي.
كانَتْ أَكْثَرُ اللَحْظاتِ المُرْبِكَةِ فِي الرِحْلَةِ هِيَ عِنْدَما تَخَيَّلَتْ حَمِيدَةً مُدُناً كَبِيرَةً، لٰكِنَّ هٰذا كانَ أَشْبَهَ بِشَيْءٍ مِنْ كِتابِ قِصَصٍ: شَوارِعُ مُعَبَّدَةٌ فِي كُلِّ مَكانٍ بِها الكَثِيرُ مِنْ السَيّاراتِ وَالناسِ! كانَتْ ماما تَكْرَهُ العَيْشَ هُنا، وَمَعَ ذٰلِكَ يُمْكِنُ أَنْ تَتَخَيَّلَ حَمِيدَةَ نَفْسِها فِي ثَوْبٍ فاخِرٍ عَلَى ذِراعِ شابٍّ وَسِيمٍ يَذْهَبُ إِلَى السينما، وَيَخْرُجُ لِتَناوُلِ الطَعامِ فِي مَطْعَمٍ لَطِيفٍ، أَرادَتْ العَيْشَ هُنا.
سُرْعانَ ما أَحاطَها الواقِعُ بِخَيْمَتِهِ، أَمْضَتْ مُعْظَمُ رِحْلَتِها لِمُساعَدَةِ والِدَتِها فِي جِدالِ الأَوْلادِ، خاصَّةً عِنْدَما حاوَلُوا النُزُولَ مِنْ القِطارِ، كانَتْ تُراقِبُهُمْ مِنْ كَثَبٍ فِي المَحَطَّةِ الأَكْبَرِ وَالمَمَرّاتِ المُزْدَحِمَةِ، أَرادَ الأَوْلادُ الرَكْضَ بِاِسْتِمْرارٍ لِأَعْلَى وَلِأَسْفَلَ فِي المَمَرّاتِ وَالتَدَلِّي مِنْ ظُهُورِ المَقاعِدِ، تَقَيَّأَ نَصِيرُ ثَلاثَ مَرّاتٍ، وَغَنَّتْ ماجِدَةً بِأَعْلَى صَوْتِها، وَسَحَبَ مَجِيدُ شَعْرِها عَشْوائِيّاً، وَوَجَّهَ إِلَيْها وُجُوهاً غَبِيَّةً، وَبَكَيْتْ هالَهُ طَوالَ الرِحْلَةِ، قامَتْ والِدَتُها بِضَرْبِهِمْ جَمِيعاً مَرَّتَيْنِ عَلَى الأَقَلِّ، وَهُوَ ما لَمْ تَجِدْهُ حَمِيدَةً عادِلاً؛ لِأَنَّها كانَتْ تَبْذُلُ قُصارَى جُهْدِها لِلمُساعَدَةِ، بِحُلُولِ الوَقْتِ الَّذِي وَصَلُوا فِيهِ إِلَى البَصْرَةِ، لاحَظَتْ ظُهُورَ كَدَماتٍ عَلَى ساقَيْها وَقَدَمَيْها حَيْثُ داسُوها عدة مرات، مَعَ اِقْتِرابِ القِطارِ مِنْ المَحَطَّةِ، لَمَعَتْ مِنْ بَعِيدٍ السُنَّةُ النارُ المُتَوَهِّجَةُ لِآبارِ النِفْطِ المُنْتَشِرَةِ فِي مَدِينَةِ النَفْطِ وَالجُوعِ وَالعَطَشِ، رُبَّما كانَتْ هُناكَ مُغامَراتٌ أَكْبَرُ فِي اِنْتِظارِكَ، خاصَّةً وَأَنَّهُ لَنْ يَمُرَّ وَقْتاً طَوِيلاً حَتَّى أَصْبَحَتْ حَمِيدَةً فِي سِنِّ المُراهَقَةِ.
اِلْتَقاهُمْ والِدُها فِي البَهْوِ، لَقَدْ كانَ أَنْحَفَ وَأَكْثَرَ شُحُوباً بِكَثِيرٍ مِنْ آخِرِ مَرَّةٍ رَأَتْهُ فِيها، شَعْرُهُ البُنِّيُّ الفاتِحُ يَتَأَرْجَحُ فِي النَسِيمِ البارِدِ، بَدا أَنَّ مِعْطَفَهُ الصُوفِيَّ البالِيَ يَبْتَلِعُهُ، أَمْسَكَ الحَقائِبَ وَاِسْتَدارَ نَحْوَ المَدِينَةِ، كانَتْ كَلِماتُهُ قاسِيَةً وَقَلِيلَةً، بَيْنَما شَقُّوا طَرِيقَهُمْ إِلَى الشِقَّةِ الصَغِيرَةِ، اِحْتَفَظَ بِمُعْظَمِ المُحادَثاتِ بَيْنَ والِدَيْها، تَحَدَّثُوا بِنَبْرَةٍ مُنْخَفِضَةٍ حَيْثُ لا تَسْمَعُ حَمِيدَةً، حَمَلَتْ الأُمُّ طِفْلَها الصَغِيرَ النائِمَ، تَشاجَرَتْ حَمِيدَةً مَعَ الباقِينَ، كانَتْ الشِقَّةُ صَغِيرَةً وَضَيِّقَةً، لٰكِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ ذٰلِكَ.
لِحُسْنِ الحَظِّ أَوْ لِسُوءِ الحَظِّ، لَنْ يَسْتَغْرِقَ الأَمْرُ وَقْتاً طَوِيلاً، حَيْثُ أُصِيبَ والِدُها بَعْدَ عِدَّةِ شُهُورٍ، وَهُوَ فِي طَرِيقِهِ إِلَى العَمَلِ بِمَرَضٍ شَدِيدٍ، وَفَقَدَ أُسْبُوعَيْنِ مِنْ العَمَلِ، حاوَلَتْ الأُمُّ الحُصُولَ عَلَى وَظِيفَةٍ فِي تَنْظِيفِ المَنازِلِ، لٰكِنْ لا أَحَدَ سَيُوَظِّفُ شَخْصاً لا يَثِقُ بِهِ مِنْ خارِجِ المَدِينَةِ، فَقَدَ والَدُها وَظِيفَتَهُ لِكَثْرَةِ غِياباتِهِ المُتَكَرِّرَةِ عَنْ العَمَلِ، سَوْفَ يَسْتَقِلُّونَ القِطارَ إِلَى بَغْدادَ إِذا اِقْتَضَى الأَمْرُ مجددا.
"حَمِيدَةٌ؟ حَمِيدَةٌ، عَزِيزَتِي. هَلْ أَنْتَ بِخَيْرٍ؟" كَسَرَ صَوْتُ زَوْجِها العَمِيقِ الغَنِيِّ حُلْمَها.
نَعَمْ، فَقَطْ نَعْسانَةُ.
لَقَدْ اِقْتَرَبْنا مِنْ البَصْرَةِ، كُنْتُ أُفَكِّرُ بِمُجَرَّدِ أَنْ أَحْصُلَ عَلَى راتِبِي التالِي، سَنَقُومُ فَوْراً بِسَفَرِهِ إِلَى حَيْثُ تَشائِينَ، أَنا مَدِينٌ لَكَ بِشَهْرِ عَسَلٍ مُناسِبٍ.
كَمْ أُحِبُّ ذٰلِكَ.
أَنا بِحاجَةٍ إِلَى تَحْرِيكِ ساقِي، هَلْ تُرِيدِينَ شَيْئاً لِتَأْكُلِيهِ؟ اِحْتاجَ إِلَى كُوبٍ مِنْ الشايِ.
لا، أَنا بِخَيْرٍ.
قامَ سامِرُ الغَرِيبِ بِتَصْوِيبِ زِيِّهِ العَسْكَرِيِّ، وَشَقَّ طَرِيقَهُ نَحْوَ المَطْعَمِ، سَمِعَتْ رَجُلاً يُنادِيهِ "أَعْسَرُ" لَمْ تَسْتَطِعْ سَماعَ مُحادَثَتِهِمْ، مِنْ الواضِحِ أَنَّهُ شَخْصٌ يَعْرِفُهُ مِنْ بَغْدادَ، بَعْدَ الحَدِيثِ لمدة قصيرة، خَرَجَ الرَجُلانِ نَحْوَ عَرَبَةِ الطَعامِ، حَدَّقَتْ حَمِيدَةً فِي الرِيفِ، وَهُوَ يَنْجَرِفُ مَعَ اِسْتِمْرارِ القِطارِ بِاِتِّجاهِ الجَنُوبِ، كانَتْ قَلِقَةً بِشَأْنِ لِقاءِ الشَمْلِ القادِمِ مَعَ والِدِها.
بَعْدَ سَنَواتٍ قَلِيلَةٍ، عَمِلَ والِدُها بِاِعْتِدالٍ، لَقَدْ تَلَقَّوْا سِلَعاً شَهْرِيَّةً، حَصَلَتْ والِدَتُها عَلَى وَظِيفَةٍ، وَما زالَتْ هُناكَ مِنْ أَجْلِ الأَطْفالِ، بِمُجَرَّدِ أَنْ بَلَغَتْ حَمِيدَةَ الخامِسَةَ عَشَرَ مِنْ عُمْرِها، بَدَأَتْ العَمَلَ كَعامِلَةٍ فِي مَعْمَلِ خِياطَةٍ مَحَلِّيٍّ، هٰذا هُوَ المَكانُ الَّذِي بَدَأَتْ فِيهِ الحَياةُ تَتَغَيَّرُ حَقّاً مُنْذُ ما يَزِيدُ قَلِيلاً عَنْ عامَيْنِ.
تَمْشَّى سامِرُ الغَرِيبِ فِي أَحَدِ الأَيّامِ بِالقُرْبِ مِنْ مَعْمَلِ الخِياطَةِ الَّتِي تَعْمَلُ فِيهِ، كانَتْ حَمِيدَةً قَدْ واعَدَتْ لفترة قصيرة شَقِيقَتَهُ، لٰكِنَّ والِدَها وَضَعَ حَدّاً سَرِيعاً لِلعَلاقَةِ، لَمْ يَهْتَمَّ سالِم غَدِيرٌ بِعائِلَةِ الغَرِيبِ، كانَتْ قاسِيَةً، لَمْ يَذْهَبُوا إِلَى الجامِعِ، كانَ والِدُهُمْ يَعْزِفُ العُودَ فِي الأَعْراسِ، قُتِلَ جِدُّ سامِرٍ وَهُوَ مُقامِرٌ مَعْرُوفٌ عَلَى يَدِ قُطّاعِ الطُرُقِ فِي الشارِعِ الرَئِيسِيِّ وَهُوَ فِي طَرِيقِهِ إِلَى أَحَدِ الأَعْراسِ قَبْلَ بِضْعِ سَنَواتٍ، كانَتْ لَعْنَةُ الشُرْبِ تَتْبَعُهُ، وَهُوَ ما اُشْتُهِرَ بِهِ الغَرِيبُ أَيْضاً، فِي الواقِعِ بَدَأَ سامِر مُمِلّاً بَعْضَ الشَيْءِ عِنْدَما دَخَلَ فِي ذٰلِكَ اليَوْمِ المَشْؤُومِ، كانَ وَسِيماً رَغْمَ ذٰلِكَ.
ماذا عَنْ كُوبٍ مِنْ الشايِ، حَمِيدَةٍ؟
بِالتَأْكِيدِ، هَلْ تُرِيدُ أَيَّ شَيْءٍ آخَرَ؟
مُجَرَّدُ التَحَدُّثِ مَعَكَ سَأَكُونُ عَلَى ما يُرامُ،
غَطَّتْ حَمِيدَةُ فَمَها بِيَدِها اليُمْنَى، خافِيَةً اِبْتِسامَتَها، كانَتْ مُدْرِكَةً لِذاتِها بِشَأْنِ أَسْنانِها الأَمامِيَّةِ، غالِباً ما كانَ الأَطْفالُ فِي المَدْرَسَةِ يَسْخَرُونَ مِنْها.
سامَرُ أَنا أَعْمَلُ فِي مَعْمَلِ الخِياطَةِ وَأَبِي لا يُرِيدُنِي حَقّاً أَنْ أَتَحَدَّثَ إِلَى الأَوْلادِ، وَخاصَّةً أَنْتُمْ آلُ الغَرِيبُ، لَمْ تَسْتَطِعْ المُوافَقَةَ عَلَى الخُرُوجِ مَعَهُ حَتَّى لَوْ أَحَبَّتْ ذٰلِكَ، وَأَرادَتْ ذٰلِكَ حَقّاً.
اِبْتَسِمَ سامِر الآنَ اِسْمَعِي حَمِيدَةً، أَنا لَسْتُ بِاِسْمٍ،
قالَتْ مازِحَةً: لا، أَنْتَ أَسْوَأُ مِنْ أَخِيكَ سَأَعُودُ حالاً وَنُكْمِلُ الحَدِيثَ.
كانَ مَذْهُولاً وَمُتَخاذِلاً، حَدَّقَ فِيها وَهِيَ تَبْتَعِدُ بِتَحَدٍّ، لَمْ يَكُنْ يَتَوَقَّعُ هٰذا، كانَتْ عادِيَّةً هادِئَةً وَغَيْرَ قِتالِيَةٍ، لَمْ يَسْتَسْلِمْ، واضِعاً أَفْضَلَ اِبْتِسامَةٍ لَها عِنْدَما عادَتْ.
لِماذا لا تَخْرُجِينَ مَعِي قَبْلَ أَنْ اِلْتَحَقَ إِلَى وِحْدَتِي؟
لِماذا، لا يُمْكِنُكَ الهُرُوبُ مِنْ الوَحْدَةِ العَسْكَرِيَّةِ، أَنْتَ فَقَطْ فِي العِشْرِينَ مِنْ عُمْرِكَ.
قالَتْ والِدَتِي إِنَّها لا تَتَذَكَّرُ السَنَةَ الَّتِي وُلِدَتْ فِيها، كانَ مِنْ المُمْكِنِ أَنْ يَكُونَ عامَ 2003 هُوَ الَّذِي سَيَجْعَلُنِي ثَمانِيَةَ عَشَرَ عاماً.
والِدِي كانَ عَلَى حَقٍّ، كُلُّ ما تَفْعَلُوهُ أَيُّها الأَوْلادُ هُوَ الكَذِبُ، لا أَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْكَ الذَهابُ، سَمِعْتُ أَنَّ الأَمْرَ لَنْ يَسْتَمِرَّ لِفَتْرَةٍ أَطْوَلَ بَعْدَ فَواتِ الأَوانِ، لَقَدْ اِنْتَهَى كُلُّ شَيْءٍ.
يا رَبِّ، لِماذا أَنْتَ مُهْتَمٌّ لِمُشاهَدَةِ البَحْرِ؟.
أَخْبَرَنِي الرَجُلُ العَجُوزُ دَرْوِيش كُلَّ شَيْءٍ عَنْ البَحْرِ، أُرِيدُ أَنْ أَراهُ، حَتَّى أَنَّنِي حَلَمْتُ بِهِ، أُفَضِّلُ القِيامَ بِذٰلِكَ عَلَى أَنْ أَكُونَ جَباناً هارِباً.
حَسَناً، هَدِّئْ مِنْ رَوْعِكَ، سَأَطْلُبُ مِنْ والِدِي مَعْرِفَةَ ما إِذا كانَ بِإِمْكانِي الخُرُوجُ مَعَكَ.
لا تَفْعَلِي ذٰلِكَ! لَنْ يَسْمَحَ لَكَ أَبَداً؟ قابِلِينِي فَقَطْ فِي أَيِّ مَكانٍ نَتَّفِقُ عَلَيْهِ لِحُضُورِ حَفْلِ زِفافِنا يَوْمَ الخَمِيسِ القادِمِ.
سَأُفَكِّرُ فِي الأَمْرِ بالإضافة إلى ذلك، لا يُمْكِنُنِي الوُقُوفُ هُنا وَالتَحَدُّثُ إِلَيْكَ سَأَقَعُ فِي مُشْكِلَةٍ.
غادَرَتْ حَمِيدَةً وَقَلْبُها يَنْبِضُ، لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَسْتَدِيرَ لِتُظْهِرَ لَهُ مَدَى سَعادَتِها.
فِي ذٰلِكَ اليَوْمِ تَغَيَّرَتْ حَياتُهُما مَعاً، لَمْ تُخْبِرْ والِدَها، قابَلَتْ سامِر فِي الطَرِيقِ يَوْمَ الخَمِيسِ كَما أَخْبَرَها، كانَ مِنْ الصَعْبِ إِخْفاءُ سِرِّ مُواعَدَةِ سامِرٍ عَنْ والِدِها، لٰكِنَّها تَمَكَّنَتْ مِنْ ذٰلِكَ، اِنْضَمَّ سامِرُ الغَرِيبُ إِلَى البَحْرِيَّةِ، لٰكِنَّهُ عادَ سَرِيعاً قَبْلَ المَوْعِدِ، تَسَلَّلُوا إِلَى فُنْدُقٍ مُطِلٍّ عَلَى شَطِّ العَرَبِ لِيَتَزَوَّجُوا هُناكَ، غادَرَ بَعْدَ أُسْبُوعٍ واحِدٍ، واصَلَتْ حَمِيدَةَ العَمَلِ، وَكانَ شَقِيقُهُ بِاِسْمٍ يَجْلِبُ لَها أَحْياناً أَمْوالَها مِنْ راتِبٍ سامِرٍ، وَالباقِي يَذْهَبُ إِلَى عائِلَتِهِ، لِأَنَّ والِدَها كانَ مَرِيضاً جِدّاً ساعَدَتْ الأَمْوالُ الَّتِي جَنَتْها عَلَى تَحْسِينِ وَضْعِ عائِلَتِها المادِّيِّ، كانَ هٰذا هُوَ التَرْتِيبُ حَتَّى أَرادَ سامِرٌ لَها أَنْ تَنْضَمَّ إِلَيْهِ لِيَعِيشا مَعاً، كانَ سَيَعُودُ إِلَى المَنْزِلِ فِي غُضُونِ أَسابِيعَ قَلِيلَةٍ، وَسَيَحْتاجُونَ إِلَى شِقَّةٍ هُناكَ فِي أَثْناءِ بَحْثِهِ عَنْ عَمَلٍ، لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ العَوْدَةَ إِلَى البَصْرَةِ.
كانَ ذٰلِكَ الصَيْفُ حافِلاً بِالأَحْداثِ مَعَ اِنْتِهاءِ الحَرْبِ وَالاِنْتِصارِ عَلَى داعِش الإِرْهابِيِّ، لٰكِنَّهُ كانَ مُؤْلِماً؛ لِأَنَّها لَمْ تَسْتَطِعْ السَماحَ لِوالِدِها بِمَعْرِفَةِ سِرِّها، بَيْنَما تَمَكَّنَتْ مِنْ إِبْعادِهِ عَنْهُ، عَرَفَتْ والِدَتَها وَلٰكِنَّها لَمْ تَقُلْ شَيْئاً؛ لِأَنَّ صِحَّةَ زَوْجِها سالِم ساءَتْ، أَرْجَأَتْ حَمِيدَة رِحْلَتَها الحَتْمِيَّةَ إِلَى اللَيْلَةِ القادِمَةِ لِلمُغادَرَةِ.
أَبِي، أَعْلَمُ أَنَّهُ كانَ يَجِبُ أَنْ أُخْبِرَكَ عَنِّي وَعَنْ سامِرٍ، لٰكِنَّنِي كُنْتُ أَعْرِفُ كَيْفَ سَيَكُونُ الأَمْرُ، إِذا لَمْ يَكُنْ الأَمْرُ كَذٰلِكَ لَما كانَ لَدَيْنا أَمْوالٌ إِضافِيَّةٌ هٰذا الصَيْفَ.
ضاقَ سالِم غَدِيرَ عَيْنَيْهِ، وَأَعْتَقِدُ أَنَّهُ سَيَكُونُ لَدَيْهِمْ أَقَلُّ الآنَ.
بَدَأَ مَجِيدٌ تَوّاَ وَظِيفَتَهُ سَيُساعِدُ ذٰلِكَ كَثِيراً.
فَقَطْ اِهْتَمَّ بِصِحَّتِكَ، وَسَأَزُورُكُمْ بِاِسْتِمْرارٍ وَاِهْتَمَّ بِكَ كَثِيراً
تَمْتَمَ مَعَ نَفْسِهِ بِكَلِماتٍ غَيْرِ مَفْهُومَةٍ، وَدَخَلَ غُرْفَةَ نَوْمِهِ وَأَغْلَقَ البابَ.
خِلالَ تِلْكَ الساعَةِ الذَهَبِيَّةِ مِنْ صَباحِ اليَوْمِ التالِي، غادَرَتْ حَمِيدَةً بِمُفْرَدِها إِلَى بَغْدادَ، بَدا العالَمُ مُشْرِقاً جِدّاً، تَتَوَهَّجُ الأَوْراقُ الخَضْراءُ اللامِعَةُ فِي الأَشْجارِ الَّتِي لا رِيحَ تَهُزُّها وَمَعَ شُرُوقِ الشَمْسِ حَدَّقَتْ فِي السَماءِ الساطِعَةِ عَلَى طُولِ الأُفُقِ، سُرْعانَ ما أَصْبَحَ التَحْدِيقُ مُؤْلِماً لِلغايَةِ، مَدَّتْ يَدَيْها إِلَى السَماءِ، بَدَتْ مُرْتَجِفَةً ناحِلَةً لا تَقْوَى عَلَى حَمْلِ حَقِيبَتِها الصَغِيرِ، فَجْأَةً تَذَكَّرَتْ عَيْنَيْ والِدِها، وَأَغْمَضَتْ عَيْنَيْها تُجاهَ كُلِّ شَيْءٍ، وَصَعَدَتْ أَوَّلَ سَيّارَةِ أُجْرَةٍ مَرَّتْ عَلَيْها، رَأَتْ والِدَها جالِساً عَلَى كُرْسِيِّهِ عَلَى الشُرْفَةِ، جَلَسَتْ ماجِدَةٌ عَلَى حافَّةِ الشُرْفَةِ، وَهِيَ تُؤَرْجِحُ قَدَمَيْها، وَتُداعِبُ قِطَّتَها البُنِّيَّةَ الصَغِيرَةَ، عِنْدَما رَأَى والِدُها سَيّارَةَ الرُكّابِ تَوَقَّفَتْ، وَقَفَ وَمَشَى داخِلَ المَنْزِلِ بِثَباتٍ، بَلَّلَتْ الدُمُوعُ الدافِئَةُ خَدَّيْها.
حَدَثَ ذٰلِكَ مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ عامٍ، أَوْضَحَتْ رِسالَةٌ حَدِيثَةٌ مِنْ والِدَتِها أَنَّ والِدَها يُعانِي الآنَ مِنْ مَرَضِ السُلِّ، تَمَكَّنَتْ مِنْ التَحَدُّثِ إِلَى سامِرٍ لِلقِيامِ بِزِيارَةِ أَهْلِها فِي البَصْرَةِ، لَقَدْ كانَتْ سَنَةً صَعْبَةً، عادَتْ الدُمُوعُ، لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُ أَحَداً عِنْدَما اِنْتَقَلَتْ إِلَى مِنْطَقَةِ الكاظِمِيَّةِ، أَعْطَتْها حَماتَها فاطِمَةُ اِسْمَ زَوْجَةِ صَدِيقٍ لَمْ تَكُنْ مُفِيدَةً وَلا صَدِيقَةً، كانَتْ تَعْمَلُ بائِعَةً فِي دُكّانٍ صَغِيرٍ، وَعِنْدَما لَمْ تَكُنْ فِي العَمَلِ، كانَتْ فِي المَنْزِلِ وَحِيدَةً، حَتَّى إِنَّها تَعَوَّدَتْ هٰذا الرُوتِينَ المُمِلَّ، تَعَوَّدَتْ غِيابَ زَوْجِها عَنْ البَيْتِ، ساءَ وَضْعٌ سامِرٌ كَثِيراً، كانَتْ هُناكَ أَوْقاتٌ لَمْ تَرَهُ فِيهِ لِمُدَّةِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ يَعُودُ كَعادَتِهِ يَتَعَثَّرُ وَهُوَ مَخْمُورٌ إِلَى شِقَّتِها، أَصْدَرَتْ إِنْذاراً نِهائِيّاً: كانَتْ سَتَعُودُ إِلَى مَنْزِلِ أَبِيها مَعَهُ أَوْ بِدُونِهِ، رَضَخَ.
فِي اليَوْمِ التالِي جَمَعَتْ ما تَحْتاجُهُ مِنْ مَلابِسَ مُهِمَّةٍ، وَضَعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فِي حَقِيبَةٍ صَغِيرَةٍ وَغادَرا شِقَّتَهُما مُتَوَجِّهَيْنِ إِلَى البَصْرَةِ.
لا تَتَحَدَّثْ مَعِي بِهٰذِهِ الطَرِيقَةِ، شُدَّتْ عَبِائَتَها حَوْلَها بِقُوَّةٍ.
شاهَدَتْ المَسافَةَ القَلِيلَةَ الأَخِيرَةَ مِنْ المَناظِرِ الطَبِيعِيَّةِ الخَرِيفِيَّةِ تَتَكَشَّفُ، عِنْدَما وَصَلا مَحَطَّةَ القِطارِ العالَمِيَّةِ فِي عَلّاوِي الحُلَّةِ تَذَكَّرَتْ طُفُولَتَها، وَرَكَضَها حافِيَةَ القَدَمَيْنِ فِي دَرابِينِها الضَيِّقَةِ، تَذَكَّرَتْ صَدِيقَها الصَغِيرَ غانِم الَّذِي كانَ يُلاحِقُها كَظِلِّها، بَكَتْ عَلَى حَظِّها العاثِرِ، اِنْتَبَهَتْ عَلَى زَوْجِها يَدُسُّ لَها مِنْدِيلاً..
لا تَبْكِي عَزِيزَتِي نَحْنُ فِي طَرِيقِنا إِلَيْهِمْ.
اِقْتَطَعَ تَذْكِرَتَيْنِ وَصَعَدا إِحْدَى عَرَباتِ القِطارِ.
لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ بِالخارِجِ حِينَ أَوْصَلَتْهُما سَيّارَةُ التَكْسِي إِلَى شَقَّةِ أَبِيها، سَتَبْقَى هِيَ وَسامِرٌ مُسَمَّرَةً أَمامَ البابِ، دَقَّتْ عَلَى البابِ لِمَرَّتَيْنِ، لٰكِنَّها لَمْ تَفْتَحْ، رَمَقَها سامِرٌ بِنَظْرَةٍ فَهِمَتْ مِنْها بِأَنَّهُ يَدْعُوها إِلَى العَوْدَةِ إِلَى بَغْدادَ، لٰكِنَّها دَقَّتْ من جديد عَلَى البابِ مُنادِيَةً:
ماما أَنا حَمِيدَةٌ،
شَعَرَتْ بِالذَنْبِ حِيالَ عَدَمِ الاِسْتِجابَةِ لٰكِنَّها أَصَرَّتْ، يَجِبُ أَنْ تَرَى والِدَها مهما كلف الأمر.
عِنْدَ دُخُولِهِما شِقَّةَ العائِلَةِ الصَغِيرَةِ، كانَ إِخْوَتُها سُعَداءَ جِدّاً بِرُؤْيَتِها، عانَقَتْ هالَهُ طَوِيلاً، وَقَبَّلَتْ نَصِيرُ وَمازَحَتْ مَجِيداً ثُمَّ اِنْدَسَّتْ إِلَى المَطْبَخِ تُقَبِّلُ والِدَتَها فِي كُلِّ مَكانٍ وَتَعْتَذِرُ لِتَأَخُّرِها فِي المَجِيءِ باكِراً تَحْتَ أَعْذارٍ شَتَّى، لَمْ تُقْنِعْ بِها والِدَتُها، أَجْلَسَتْها أَخِيراً وَأَخَذَتْ عَلَى عاتِقِها إِعْدادَ العَشاءِ، تَناوَلَ إِخْوَتَها وَأَخَواتَها العَشاءَ جَمِيعاً عَلَى أَرْضِيَّةِ المَطْبَخِ، بَيْنَما كانَ والِدُها فِي غُرْفَةِ نَوْمِهِ، كانَتْ تَسْمَعُ سُعالَهُ الخانِقَ.
قالَتْ خالَتُها زَيْنَب وَوَجْهُها خالِياً مِنْ التَعابِيرِ:
إِنَّهُ يُرِيدُ التَحَدُّثَ إِلَى سامِرٍ.
دَخَلَ سامِرُ غُرْفَةَ النَوْمِ وَأَغْلَقَ البابَ، جَلَسَتْ حَمِيدَةً عَلَى المائِدَةِ، لٰكِنَّها لَمْ تَسْتَطِعْ تَناوُلَ العَشاءِ، كانَ لَدَى إِخْوَتِها مِلْيُونُ سُؤالٍ وَسُؤالٍ، حاوَلَتْ الإِجابَةَ عَنْها، لٰكِنَّ الصَوْتَ الوَحِيدَ الَّذِي كانَتْ تَتُوقُ لِسَماعِهِ هُوَ صَوْتُ والِدِها.
بَعْدَ فَتْرَةٍ، خَرَجَ سامِرٌ مِنْ غُرْفَةِ النَوْمِ.
لَمْ يَكُنْ سَعِيداً.
حَمِيدَةٌ هَيِّئِي نَفْسَكَ، دَعِينا نَذْهَبْ.
اِقْتَرَبَتْ حَمِيدَة بِحَذَرٍ مِنْ غُرْفَةِ النَوْمِ،
وَقَفَ والِدُها هُناكَ مُرْتَدِياً بِيجامَةٍ باهِتَةٍ مَدَّ ساعِدَيْهِ لِلوُضُوءِ، وَفِي يَدِهِ مِنْدِيلاً مُلَطَّخاً بِالدِماءِ.
كانَتْ عَيْناهُ غائِرَتَيْنِ، وَوَجْهُهُ شَبَحِي،
أُطْلَقَ العِنانُ فَجْأَةً لِسُعالٍ مُتْعَبٍ.
اِنْتَظَرْتْهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ،
أَحِبَّكَ بابا
لا تَدَعِينِي أَبِي.
أَنْتَ لَسْتَ اِبْنَةً لِي.
أَغْلَقَ البابَ بِبُطْءٍ فِي وَجْهِها.
اِسْتَمَعْتُ إِلَى سُعالِهِ وَهُوَ يَصْعَدُ عَلَى السَرِيرِ من جديد، وَهُوَ يُحاوِلُ أَنْ يُرِيحَ نَفْسَهُ.
غادَرا فِي الغَسَقِ المُتَجَمِّعِ،
حَمَلَ سامِرُ حَقِيبَتِها الصَغِيرَةِ.
بَيْنَما كانَ الزَوْجانِ الشابّانِ يَشُقّانِ طَرِيقَهُما عَبْرَ الدَرابِينِ الضَيِّقَةِ، سَمِعَتْ سُعالَهُ المُتَواصِلَ، مَسَحْتُ دَمْعَتَيْنِ ساخِنَتَيْنِ، وَأَسْرَعَتْ الخُطَى خَلْفَ سامِر.
سَعِيد الوائِلِي
1962025