الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
قد يتمرد الآباء على الأبناء

بواسطة azzaman

كلام أبيض

قد يتمرد الآباء على الأبناء

جليل وادي

 

أخيرا وعلى مضض رضخ لإرادة أبنائه ، فأزال من صالة الضيوف شهاداته التقديرية وصور تكريمه الرفيعة التي حصل عليها خلال مسيرته العلمية والثقافية ، بذريعة انها غير ملائمة للحداثة التي تفترض موضتها جدران خالية الا من اكسسوارات تجميلية . ومع انه لم يقتنع بمبررات الأبناء ، وحاول ثنيهم عما يريدون ، فلطالما افتخر بها ، ودلل على نجاحاته من خلالها ، وكثيرا ما يتأملها ، فوراء كل صورة حكاية طويلة تعود بالذاكرة الى دخان الفوانيس واللمباة الذي ملأ أنفه وفمه ، ولسعات البعوض التي أدمت جسده ، ما أن يبصرها حتى يتسلل الفرح الى ثنايا روحه ،  كماء بارد في نهار قائظ يشعر بمساراته أينما حلت في الشرايين ، لكنهم لم يترددوا بالتصريح انها تفقد الصالة جماليتها ، غير آبهين لخلود اسمه الذي قد يحتاجونه يوم ما للقول : هذا أبونا .

يجهل الأبناء كم كانت تلك المسيرة شاقة ، فقد أبصروا النور وجميع احتياجاتهم لباها الأب العظيم والتي اختلط فيها عرق الجبين برماد المواقد ، ما كان يريد لهم التعرض للعسر ، او أن يعانوا عقد نقص تضعف من ثقتهم بالنفس ، او تحول دون ارتقائهم لما يتطلعون ، فضاعف جهده ، وواصل ليله بنهاره  ، واقتصد بنومه ، ليطول يومه ، ولكن ماذا يفعل للموضة التي ساوت تاريخه بالأرض كبلدوزر متوحش لا يفرق بين حجر وشجر .

لا يعير الأبناء كثير اهتمام لحكاية فوزه بالمركز الأول في محفل كبير حضرته  شخصيات من مختلف أرجاء الدنيا ، او حكاية تلك الصورة التي توثق وجود أبيهم مع شخصية معروفة علميا ، بل يتلمس في وجوههم بأن كل ما تحقق لا جدوى منه، فلا العلم او الثقافة بنافعة في أيامنا التي يعلو فيها صوت المال على كل صوت ، وهالة المنصب على كل هالة . بينما لا يريد من المال أكثر من حاجته ، ولا تغريه مناصب مهما علت .

حاول أن يجد لأبنائه سبعين عذرا ، فقد خلقوا لزمان غير زمانه ، صار فيه خلو الجدران أجمل من التوثيق للعلم او الافتخار بالثقافة ، هكذا يرى من تنقلهم خطوط النقل من باب البيت الى باب الجامعة ، بينما كان عليه ليواصل دراسته أن يمشي على الاقدام سبعة كيلو مترات ذهابا ومثلها ايابا ، ويتخذ من الدرب الترابي سبورة لحل مسائله الرياضية ، وأن يتحمل تسلل البرد القارص الى عظامه ، فملابسه المتهالكة لا تقيه لسعاته او تحميه من مطر قد يصادف هطوله طول الطريق .

لا ضير الحياة تغيرت وعليه تلبية رغباتهم ، او الاستسلام برضاه  قبل أن تُزال انجازاته قسرا من جدران يريدونها خالية الا من علامات حداثتهم ، فوجوده على الجدران لا يضيف لحياتهم معنى ، معانيهم مختلفة عن معانيه ، وربما يقولون في سرهم : لقد هدر الآباء أعمارهم بما لا طائل منه .

قد يكون لهم الحق فيما يذهبون ، فما عاد العلم بكاف للوصول الى منصب رفيع ، او لبناء بيت في أماكن تتلاطم قربها الأمواج ، او لشراء سيارة فارهة ، او للجلوس في مقدمة الصفوف ، فيمكن لذلك التحقق من دون الحاجة للعلم او الثقافة . انظروا حولكم ، وتأملوا بمن يدير واقعنا ويتحكم بحياتنا ، ستجدون ان أكثرهم ممن لا حظ لهم من علم او ثقافة ، سطحيون لا عمق لهم ، لم تعد الثقافة سلما للعلو ، المظاهر هي الحاكمة ، فقد صارت الناس تستقبل بالأحضان على المظاهر والثراء والمناصب ، وآذانهم صاغية لما يقولونه ، مع ان التافه من القول هو الطاغي على كلامهم  ، فما جدوى الثقافة وما ضرورة العلم ؟، هكذا انتهى كلام صاحبنا مع نفسه ، فنقل صوره وشهاداته الى غرفة في مؤخرة البيت لا يدخلها أحد سواه ، وبات ينظرها من سريره ، ويبحر في عوالمها لوحده ، وفي لحظة غضب اقتحم الصالة وصرخ بوجه أبنائه : انتبهوا، لا مدخل للنهوض الا بالعلم والثقافة .

 

jwhj1963@yahoo.com


مشاهدات 556
الكاتب جليل وادي
أضيف 2023/12/16 - 11:09 PM
آخر تحديث 2024/07/17 - 4:55 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 338 الشهر 7906 الكلي 9369978
الوقت الآن
الخميس 2024/7/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير