حتى تكتمل عراقيتك.. سارع لقراءة مذكرات قاسم الرجب
وليد عبدالحسين جبر
عبر برنامج “ تويتر “ سابقا و “ اكس “ حاليا ،وجدت محامياً سعودياً مهتماً بنشر نتاجات الكتّاب القانونيين في العراق ، الا وهو الزميل “ احمد بن نهار “ وراح ينشر مزيد من عناوين الكتب القانونية العراقية ويذكر علماء وفقهاء القانون في العراق باستمرار، بل وجدته نشر حتى اجزاء من مقاطع الفيديو التي اقوم بتصويرها وانشرها في مواقع التواصل الاجتماعي واتحدث فيها عن الموضوعات القانونية العملية ، وبصراحة افتخرت واعجبت وفرحت كثيرا بهكذا زميل عربي يشيد و يشير لنتاجات بلدي وابنائه ، فكتبت اليه رسالة اشكره على هذا السلوك الذي ينم عن ثقافة واسعة وحرية في الرأي والتعبير نحتاجها في هذا الزمن اكثر من اي وقت مضى ، وبعد ايام صرنا صديقين نتواصل باستمرار حول الكتب والكتّاب والفكر القانوني العربي عامة والعراقي الذي يغرم به خاصة ، ومن ضمن ما اذكر له انه قال لي ذات مرة : “هل قرأت مذكرات صاحب مكتبة المثنى قاسم الرجب ؟ سارع بقراءتها، حتى تكتمل عراقيتك ، قرأتها في الكويت بعد المغرب وكنت في معرض الكتاب فجلست وما ابصرت إلا وحارس الأمن يقول لي عليك انت تخرج سيدي ، الساعة الآن الحادية عشر ،والمكان سيُغلق!” وبصراحة كم استحييت من نفسي انني لأول مرة اسمع بهكذا مذكرات !!! كم جاف لبلدي وتراثه اذن ، وهكذا وطبقا لنصيحة زميلي السعودي سارعت باقتناء هذه المذكرات ،وطالعتها في اوقات الفراغ ليلاً ، فتعرفت من خلالها على شخصية ثقافية عراقية عظيمة انه مؤسس مكتبة المثنى العريقة ، عالم الكتب “ قاسم محمد الرجب “ حيث قال عنه “ كوركيس عواد “ وهو يقدم لمذكراته “ اذا كان قد اشتهر في العصور السالفة جماعة من العلماء بالكتب أمثال ابن النديم صاحب الفهرست، وحاجي خليفة صاحب كشف الظنون، ففي وسعنا القول ان الأستاذ قاسم محمد الرجب، ممن ينبغي ذكرهم في زمننا في هذا الميدان الفسيح ، وللأستاذ قاسم ذاكرة عجيبة تسعفه في معرفة ما استورده من مطبوعات عربية على مدى تلك السنين. بل إنه ليدلك على دور الكتب العامة والخاصة التي استقرَّت فيها الأعلاق النفيسة من تلك المطبوعات” وقد حكا لنا هذا العالم اهم محطات حياته منذ ولادته في بغداد / الأعظمية عام 1919 ، مرورا بصلته بسوق السراي عام 1930 - 1931 يوم ترك المدرسة بسبب حالته المادية السيئة ، ومن ثم اشتغاله عند نعمان الأعظمي صاحب المكتبة العربية كعامل ، حتى تأسيسه مكتبته ( المثنى ) و اشتهارها على مستوى العالم ،
رقابة مشددة
غير ان رياحاً جديدة أخذت تهب منذ أوائل السبعينات لتنذر بأنواع من المتاعب التي لم يألفها سوق السراي، ولم تعرفها تقاليده العتيدة في مجال الاتجار بالكتب فثمة رقابة متشددة بدأت تحاصر الكتاب المستورد حتى قبل أن يصل أرض العراق، وثمة حصار غير مُعلن لمجلة المكتبة من خلال عرقلة تجديد إجازتها، كما كان هناك امتناع رسمي عن منح المثنى إجازات استيراد الكتب وتصديرها؛ ثم إن تأسيس الدار الوطنية للتوزيع والنشر، وهي دار حكومية، سنة 1970 ، جعلها تحتكر توزيع المجلات الواصلة إلى القطر، وهو الأمر الذي أدى إلى تصفية قسم المجلات في المكتبة، فسبب لها تدهوراً ماليا مستمرا، وتراكماً خطيراً في الديون، هذا فضلاً عن ركود سوق الكتاب نفسه أخذت تعصف بالبلد عهد ذاك، مع ارتفاع ملحوظ بحجم الضرائب، لنودع في عام 1974 هذا العالم الجليل حيث قام بآخر مجهود له في مجال تجارة الكتب، إذ سافر إلى بعض الأقطار العربية مُمضياً فيها عدة أشهر، متجولاً بين مكتباتها، ملتقياً بكبار ناشريها، متفقداً فرع المثنى في بيروت، وهناك تزايدت متاعبه النفسية، لأسباب عدة فكان أن أصابته أزمة قلبية حادة توفي على إثرها في الأول من شهر نيسان من تلك السنة، فنقل جثمانه إلى بغداد حيث شيّع بموكب كبير، وصلي عليه في جامع الإمام الأعظم أبي حنيفة، ودفن في مقبرته بجوار صديقه الخطاط الشهير هاشم محمد البغدادي قرب مرقد شيخ أبي بكر الشَّبلي، رحمهم الله . وقد نقل لنا في مذكراته المشار اليها حوادث تاريخية مهمة عن الكتاب والكتابة والثقافة والمثقفين و فتح الضوء على حقبة زمنية مهمة فيما يتعلق بذلك ، ناهيك عن الطرائف والنوادر الجميلة التي اقتنصها قلمه الجميل ، فمثلا يذكر " ان أكبر زبون للسوق وللكتاب هو عباس العزاوي المحامي، اذ كان يتردد إلى السوق أربع مرات أو أكثر في كل يوم فلا يفوته كتاب مطبوع أم مخطوط، ويصحبه أخوه علي غالب العزاوي المحامي، وكان رجلاً ذكيا مهذباً، فكان عباس العزاوي يستشيره عند كل صفقة يقع عليها اختياره. وإذا ما وقع كتاب خطي ولم يشتره العزاوي، فإنه يبقى سنوات دون أن يباع، إذ لم يكن هناك يومذاك من يتسوق الكتاب، وهناك كثرة من أصحاب الأقلام لم أرهم قد دخلوا السوق، أو اشتروا كتاباً، وهذا أمر عجيب ولم أجد من المكتبات بالسوق من أحرز ثروة إذ المعروف أن الكتب لا ثراء منها قط" ثم يذكر ظاهرة اعتقد لا تزال موجودة عند البعض الا وهي " ويُذكرني هذا بكثير ممن رأيتهم من هذا القبيل، وأشهرهم رضا النقاش أو رضا الأعرج كما يعرف بيننا، فهذا لا يدع كتاباً إلا اقتناه، لا سيما الكتب الحديثة وبوجه خاص ما يبحث منها في الشؤون الجنسية، ومن شدة اهتمامه بالكتب وحرصه على اقتنائها فإنه يمر يوميا بالمكتبات كافة كبيرها وصغيرها، وحتى باعة الصحف في الاكشاك ، وإذا بلغه أن إرسالية ستصل إلى واحد منهم فإنه لا يذهب في ذلك اليوم إلى بيته بل يبقى ملازماً له ولو إلى نصف الليل، فيفتح الصناديق بنفسه ويحملها كلها وينظمها فيساعدنا جميعاً لكي يخرج . تلك الكتب يشتريه بتخفيض بسيط، ويذهب به مسروراً، وأنا واثق بل -أجزم بأنه لم يفتح كتاباً من كتبه أو طالعه منذ عرفناه، وتراه يمزح مع كل صاحب مكتبة فيؤول به الحال إلى (الشتومة) وبذيء الكلام والتندر من أهل المكتبات كافة، والكل يعرفونه فلا يزعلون منه، ومع مجالسته أرباب المكتبات وأكثر الأدباء والعلماء فإنه ما زال عاميا لم يستفد شيئاً مما اقتنى" وينقل لنا عن يقول الرحالة نيبور الذي زار العراق في القرن الثامن عشر قوله : " إنك إذا كنت تريد كتاباً من بغداد ولم تجده فانتظر حتى يتوفى أحدهم فعندئذ ستباع كتب المتوفى في اليوم التالي فتجد الكتاب الذي تريده. وقد صدق نيبور، فالكتاب في بغداد لا يزال من الأشياء الكمالية التي يُستغنى عنها أو تباع حال وفاة مقتنيها وإن البغدادي إذا أفلس باع مكتبته وكذلك إذا تزوج، أو أراد شراء دار له أو أية حاجة أخرى، فإن أول ما يفكر به هو بيعه مكتبته أو ما عنده من كتب كما أن الحكومة حينما تُعلن سياسة التقشف والاقتصاد فإن أول ما تلتفت إليه هو إيقاف شراء الكتب أو تجليدها. وهنالك كثير من الناس ممن باعوا مكتباتهم مراراً " وبالفعل رأيت ووجدت ذلك في مكتبات شارع المتنبي كثير من كتب المتوفين باعها ورثته و اقتنيتها و ستباع بعد وفاتي كالعادة !! فنادرا ما يكمل الابناء مسيرة الاباء .
ثم يصدمنا بمفارقتين عن سوق وبيع الكتب ، الاولى انه يعتبر العراق أحسن سوق لبيع الكتب وأعظمها إذا ما قيس بسائر الأقطار العربية الأخرى، ويعلل ذلك نتيجة صراع المبادئ والمذاهب والعقائد. ولا تقتصر سوق الكتب في العراق على بيع المطبوعات إلى العراقيين، بل يتعدى الأمر إلى تصدير الكتب الكثيرة إلى تركية وإيران والهند بل إلى أوروبة وأميركة فالكتاب العربي الذي يُطبع في أي بلد كانت أسواق العراق تستهلك 70 بالمئة مما طبع منه، وكذلك المجلات.
مفارقة اخرى
والمفارقة الاخرى يقول كانت الكتب القانونية والاقتصادية أقل الكتب التي تستورد، وذلك لعدم تطبيق القانون المدني في السابق، إذ كانت المحاكم تطبق أحكام المجلة، فلما حلّ القانون المدني محلها أخذ العراق يستورد كميات هائلة من كتب القانون والاقتصاد على اختلافها وأول من باعها المكتبة الأهلية، وأكثر ما انتشر من هذه الكتب شروح القانون المدني للسنهوري والموسوعة الجنائية لجندي عبد الملك وكتاب في المسؤولية الجنائية للقللي. وكانت الكتب القانونية غير معروفة لذا كان بيعها وشراؤها محدوداً، إذ لم يتثقف المحامي والحاكم في العراق إلا بقسط قليل، فقد كان حسبه أن يعرف كيف يقيم الدعوى ويكتب بعض الصكوك الجزائية والحقوقية وبعض المتون.
الى غير ذلك من الذكريات والاحداث والاخبار ، انها بحق مذكرات حق لكل مثقف عراقي على وجه الخصوص مطالعتها ، لأنها تكشف كثير من خفايا وخبايا ما جرى في مطلع ومنتصف القرن الماضي والذي بدوره أثّر على حاضر البلد ومستقبله ، اكرر شكري وتقديري لزميلي من السعودية المحامي " احمد بن نهار " على اشارته لأهمية هذه المذكرات و نصيحته بمطالعتها وارسالها لي عبر البريد الالكتروني .
واتمنى من الكتبيين والمثقفين الاهتمام بذكرى عالم الكتب الرجب واحياء ذكراه وجهوده وتعريف القرّاء الجدد به من خــــــــلال الندوات او المحافل او جعــــله عنوان لبعض معارض الكتاب او المنتديات ، فأنه يستحق الذكر والخلود.