الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الأديان الراقية كالحضارات الأصيلة لا تموت

بواسطة azzaman

الأديان الراقية كالحضارات الأصيلة لا تموت

لويس إقليمس

 

التاريخ عمومًا يحفظ لشعوب الأرض حضاراتها التي خطتها بأيديها وصانتها في عقولها ونقلتها للأجيال عبر عصور وقرون وأزمان تختلف في صعوبتها وسلاستها وفي وسائل استدامتها. وقد ينطبق ذات الواقع والحال على الأديان في عمومها، بالرغم من اعتقادنا بزوال العديد منها منذ نشأة الخليقة بسبب التراكم الكمّي لعناوينها ومناطق نشأتها وضعف مبادئها وأهمية تأثيرها في عقول ونفوس الشعوب التي آمنت واعتقدت والتزمت بها عبر الأجيال في مختلف الظروف التي أحاطت بها وفي تطورها أو في محدودية الالتزام والتبشير بعنوانها. وقد يكون العدد الإجمالي التقريبي الذي تروج له بعض الإحصائيات لمجموع الأديان والمعتقدات القائمة لغاية الساعة يتجاوز الأربعة آلاف وثلاثمائة دين أو معتقد بحسب آخر تحديث لعام 2022، كما يرد في أحد المواقع العربية المختصة «موضوع». ومن الجدير ذكرُه أنّ أهم الأديان وأكبرها وأكثرها انتشارًا بموجب ما هو قائم لغاية الساعة يشير إلى تصدّر المسيحية قائمتها بواقع يربو على 2,3 مليار تابع بمختلف طوائفهم وانتماءاتهم الكنسية، يليها الإسلام بواقع 1,3 مليار تابع بمختلف مذاهبهم وأنواع فقههم، ثمّ الهندوسية التي تحتفظ بما يربو على مليار نسمة أو أقل بقليل من هذا العدد التقديري، تليها البوذية بما يقرب من نصف مليار تابع. هذا إلى جانب ديانات أخرى تحتلّ أهمية معينة في حياة الشعوب لأسباب موضوعية وتاريخية وسياسية في آنٍ معًا، ومنها اليهودية والبهائية والسيخية واليانية وديانات أخرى متعددة تحتل مواقع لها في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا، لكنها تبقى محدودة الانتشار بسبب عقائدها الغربية في معظمها. فيما تحتل الديانات الابراهيمية (السماوية) الثلاث المتمثلة باليهودية والمسيحية والإسلام موقع الصدارة في العدد والاهتمام والانتشار في العالم من حيث أهمية التأثير في الحياة اليومية السياسية منها والاجتماعية والاقتصادية في العالم.

سنوات اخيرة

والجدير ذكره أنه في السنوات الأخيرة من القرن العشرين وما تلاه، جرت حوارات ونقاشات صريحة وجادّة جمعت مختصين ورجال دين وزعامات دينية أساسية ومهمّة من هذه الثلاث التي تحتل موقعًا حيويًا في العالم للاتفاق على عيش المشتركات وتطويعها لصالح الإنسان والعالم في خطوة إيجابية لنزع فتيل التوتر وإزالة سوء الفهم والابتعاد عن كلّ أساليب العنف والخوف والشك في المعتقد والنوايا والإرادة.

ممّا لا شكَّ فيه أن الأديان التي كُتب أو يُكتب لها البقاء أكثر في الانتشار والتطور والتأثير تكمن في ميكانيكية التفاعل القائم بين أتباعها ومثيليهم من المجاميع الدينية الأخرى التي تعيش بجوارها وتتقاسم معها الحياة المشتركة بجميع أشكالها وصعوباتها وتسهيلاتها. ومنها ما يؤكد هذه النظرة العامة في موضوعة نشر ثقافة الحوار والسلام والعيش السلمي صيانةً للمبادئ التي تؤمن بها من دون التداخل أو التدخل في شؤون غيرها وإفساد علاقات الودّ وحسن الجيرة المفترضة فيما بينها بحسن النية وضمن رباط المحبة وتقاسم حلو الحياة ومرّها حين تسهل أو تشتدّ الأحوال لأية أسباب أو نتيجة لظروف غير مستقرّة. وهذا بطبيعة الحال يتطلبُ احترام حقيقة الاختلاف في المعتقد بين هذه جميعًا. فاحترام الاختلاف في أيّ شيء، ولاسيّما في شأن حرية الدين والمعتقد والفكر ونمط الحياة وعيشها تأتي ضمن أبجديات استواء شكل الحياة واستقرار الشعوب والمجتمعات وبيان أخلاقها الدينية والمجتمعية. وايُّ اختلالٍ في واحدة من هذه، قد يقلب أجواء الحياة إلى جحيمٍ وإلى ما لا تُحمد عقباه، ما يستلزم تدخلاً لقوةّ بل لقوى مؤثرة لوضع الأمور في نصابها. وهذا ما لا يترقبه أو ينتظرُه أصحاب النوايا الحسنة والإرادات الطيبة من عليّة القوم وأركان الأديان وزعامات المعتقدات وريادات الفكر والثقافة والعقل والحكمة. فالرموز الدينية المتولية بالحفاظ على احترام أديانها والسهر على سعادة واستقرار أتباعها وكذا المقدّسات والممتلكات المؤتَمنة عليها تبقى خطوطًا حمراء لا يمكن المساسُ بها أو تدنيسُها لكونها رأس الحربة في استدامة العلاقة بين المختلفين دينيًا وعقائديًا ومذهبيًا. وذلك حفاظًا على قدسية واستدامة المشتركات التي تجمع ولا تفرّق.

من هنا، تبقى الرموز المقدسة لعموم الأديان، ومنها كتبُها وتراثُها وأشخاصُها وتاريخُها، دليلاً لشكل الثقافة المجتمعية الصحيحة الراقية باعتبارها من أشكال الإبداع الكونيّ في نزع أية مسحة طائفية أو عنفية بين المختلفين دينيًا، تمامًا كما كانت حالُ حضارات الشعوب من يوم بدء الخليقة ولغاية اليوم. فهناك حضاراتٌ سادت ثمّ بادت بفعل عوادي الزمن وتغيُّرِ الثقافات وتبادل الأدوار واختلاف الأزمان وسيادة اقوامٍ أكثر قدرة للبقاء على غيرها من الأكثر ضعفًا منها، ما جعلها في طيّ النسيان والانقراض مع مرور الزمن.

أديان قوية

 ولكن ممّا لا شكَّ فيه، أن الأديان القوية في إيمانها وعمق تأوين مفاهيمها وممارسة مبادئها بروح التطوّر مع الزمن وحاجة الإنسان الآنيّة واليومية وفق هذا التطوّر، من شأنها أن يُكتبَ لها البقاء أكثر بفعل الاستدامة المطلوبة والمتوافقة مع تطور فكر وعقل وروح الإنسان نفسه وحاجاته. أمّا الأديان والمعتقدات التي تتقاطعُ مع مثل هذه السمة في ممارستها وفي تطبيق خطوطها ومبادئها وتعاليمها ومنهجيتها وفق فقهٍ جامدٍ أو إرثٍ متحجّر لا يقبل التطوير والتأوين والتأقلم مع تطور الحياة، فلا شكّ قد يصيبُها الحول المجتمعي أو العمى الجمعي في التناغم مع حاجات الحياة اليومية للإنسان، ما قد يسحب البساط من أرجل التابع والمتبوع لمثل هذا المعتقد الجامد الذي لا يقبل التغيير والتطوير والانسجام ويجبرُه للخروج عن الخطوط الأساسية لدينه ومذهبه وطائفته. وفي هذه خسارة لهذا الأخير.

ما يمكن ملاحظته في هذا العصر المتحرّك لغاية الهرش الفكري لدى أتباع بعض الأديان ومدى التخبط لدى البعض في تقديس كلّ شيء وأيّ شيء حتى الإنسان العادي والحيوان والجماد لحدّ العبادة الجامدة المنفرة وغير المبرّرة، يكمن في تزايدِ تنامي مثل هذه الظاهرة في بعض مجتمعاتنا الدينية غير السويّة والمصرّة بالسلوك في ظلمات العصور المظلمة التي لا تقبل التأوين والتطوّر والانفتاح. وبالرغم من إيماننا بصحة بروز صحوة دينية مفعمة بالإيمان الحقيقي وفق رؤية إنسانية منفتحة ومتسامحة وقابلة التقرّب من ربّ الكون بوسائلها العقائدية والروحية والصوفية الأصيلة «غير الأصولية» في التعصّب والتشدّد في تأوين أحداث الماضي وإرثه وفق زمن الماضي بكلّ خلفياته المتهرّئة وفي النظرة للآخر المختلف عنه في الدين، إلاّ أنّ العقل المتأرجح والفكر الناضج لا يرضيان بالعودة إلى تلك الينابيع الأصلية الطيبة التي قد يتيقنُ أو يؤمنُ بها نفرٌ من البشر البسيط والساذج المغلوب على أمره عبر روحية التعصّب لها والتشدّد في تطبيق الكثير ممّا نُقل أو يُنقلُ له من مظاهر غريبة وأحاديث وروايات وقصص خرافية غير مأمونة الجانب في أسلوب نقلها وتقريبها للأتباع. كما أنّ مسألة رفض تأوينها وفق تطور الحياة وحاجات الإنسان الروحية والاجتماعية والوظيفية والإنسانية في الزمن الحاضر، قد يضعها في خانة التشدّد غير المقبول الذي لا مبرّرَ له. فهذا يقع ضمن أيدولوجيا جامدة لا تقبل التأويل والتفسير والتوضيح خارج الزمن الماضي المنقضي منذ عهده أو الحياد عنه، ما قد يعكّرُ صفو الحياة وشكل العلاقات الوضعية مع الآخر والجار، شخصًا أم رمزًا أم موضعًا أم منطقة.

إنّ هذه الأشكال من التطرّف والتعصّب تدخل ضمن مبدأ رفض التحفيز لحياة إنسانية سويّة مفعمة بالروحانيات الصحيحة التي تنتهجها الأديان الراقية في نظرتها لشكل الحياة والتي تأخذ بضرورات الإنسان فيها، ماديّا وإنسانيًا واجتماعيًا وروحيًا وأخلاقيًا. فالتطرّف أيًّا كان شكلُه، فهو يشوّه الدين ويضع صاحبَه وحاملَه ضمن خانة المنبوذ في محيطه ومجتمعه بعكس مَن يحمل سمة الحياة الروحية المتسامحة القريبة من أخلاقيات السماء التي تنشد الأخلاق والاحترام والتسامح والنظرة العالية للآخر المنتمي لنفس الدين أو من غيره المختلف عنه. فالدّين الحليم المتسامح عمومًا، قد يُصلح هو وأدواتُه الناصحة النزيهة المفعمة بالتقوى الصالحة ما أفسدَه ويفسدُه المتشددون والمتعصبون والمتطرفون والمتاجرون من سادة قومٍ وسياسة ومعتقدٍ وفكرٍ. فتلكم هي من إفرازات أشكال الثقافة المجتمعية في عصرنا هذا، متراوحةً بين ثقافة عتيدة متسامحة منفتحة خاضعة لضرورات خليقة السماء التي تُعدّ قيمة عليا في المجتمعات المتطورة والمتحضرة، وبين أخرى مستهلكة ومهلكة في آنٍ معًا لا تقوى على مواجهة الذات بشجاعة وحرية ورقيّ إنسانيّ ولا ترغب بقبول أية ملاحظات أو أشكال النقد الإيجابي لتأمين مسيرتها وحفظ أدبياتها وعيش مبادئها وفق حاجة البشر العليا في الزمان والمكان.

هذا للتذكير فقط! كي لا تقع بعضُ هذه الأديان والمعتقدات في فخاخ مصالح الجهلة وجلاّدي الشعوب وأرباب النفاق الدينيّ والمتاجرين به لأغراض ومنافع لا صلةَ لها بعبادة الخالق وجبروته ولا براحة المخلوق ومصلحته. والأخطر في هذه جميعًا، عندما يقفز الساسة في أنظمة ارتجالية غير مستقرّة تحملُ شعوبُها أيديولوجيا غير ناضجة بعيدة عن اية انتماءات وطنية وأخلاقية وإنسانية، ليقودوا المجتمعات وفق رؤية مزاجية للنيل من مقدّسات الأديان ورموزها الحقيقية بأيّ ثمن حتى لو حصل ذلك على حساب الوطن والمجتمع والدّين ذاته.

 


مشاهدات 266
الكاتب لويس إقليمس
أضيف 2023/12/01 - 2:55 PM
آخر تحديث 2024/07/18 - 12:40 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 195 الشهر 8184 الكلي 9370256
الوقت الآن
الجمعة 2024/7/19 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير