الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
ما‭ ‬بقي‭ ‬من‭ ‬الحروب

بواسطة azzaman

ما‭ ‬بقي‭ ‬من‭ ‬الحروب

قيس الدباغ

 

مرت‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬الحديث‭ ‬حربان‭ ‬عالميتان‭ ‬ثم‭ ‬تبعتها‭ ‬حروب‭ ‬صغيرة‭ ‬متتابعه‭ ‬للسيطرة‭ ‬على‭ ‬مناطق‭ ‬النفوذ‭ ‬والموارد،‭ ‬ولكن‭ ‬مستمرة،‭ ‬واعقبتها‭ ‬حروب‭ ‬وثورات‭ ‬متسلسلة‭ ‬للتخلص‭ ‬من‭ ‬الهيمنة،‭ ‬واورثت‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬الصراعات‭ ‬الكبيرة‭ ‬والمتوسطة‭ ‬ملايين‭ ‬القتلى‭ ‬واضعاف‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬العوائل‭ ‬المفككة‭ ‬والأطفال‭ ‬المشردين‭ ‬مع‭ ‬غض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬حجم‭ ‬الخسائر‭ ‬الاقتصادية‭ ‬المروعة‭.‬

‭ ‬والإنسان‭ ‬الذي‭ ‬يتوقف‭ ‬عداد‭ ‬حياته‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬تنتهي‭ ‬معاناته‭ ‬ويذهب‭ ‬للنوم‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬شاء‭ ‬الله‭ ‬والثقل‭ ‬الأكبر‭ ‬والعبء‭ ‬يقع‭ ‬على‭ ‬الناجي‭ ‬من‭ ‬الموت‭ ‬فيخرج‭ ‬من‭ ‬المعارك‭ ‬حاملا‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬آثارها،‭ ‬إما‭ ‬بشظايا‭ ‬مستقرة‭ ‬في‭ ‬جسده‭ ‬أو‭ ‬جروح‭ ‬غائرة‭. ‬وكل‭ ‬هذا‭ ‬يعتبر‭ ‬أمرا‭ ‬هينا‭ ‬مقارنة‭ ‬بالآثار‭ ‬النفسية‭ ‬والعقلية‭ ‬والعصبية‭ ‬وسبل‭ ‬التفكير‭ ‬وبناء‭ ‬الشخصية،‭ ‬فكيف‭ ‬تضع‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬محل‭ ‬تحثه‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬القتل‭ ‬والتدمير‭ ‬بأقصى‭ ‬طاقة‭ ‬وتتم‭ ‬مكافئته‭ ‬كلما‭ ‬كان‭ ‬إنجازه‭ ‬التدميري‭ ‬كبيرا‭ ‬وعدد‭ ‬من‭ ‬يقتله‭ ‬كثيرا،‮ ‬وعند‭ ‬عودته‭ ‬ليتمتع‭ ‬بالإجازة‭ ‬الوقتية‭ ‬تطلب‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يلتزم‭ ‬بالعبور‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬من‭ ‬الأماكن‭ ‬المخططة‭ ‬ولا‭ ‬يتعداها‭.‬

‭ ‬تأمره‭ ‬أن‭ ‬يقتل‭ ‬بأقصى‭ ‬قوة،‭ ‬ثم‭ ‬حين‭ ‬عودته‭ ‬لعائلته‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬محبا‭ ‬ودودا‭ ‬يسمع‭ ‬الموسيقى‭ ‬الهادئة‭ ‬ويطرب‭ ‬لها‭ ‬ويشتري‭ ‬الزهور‭ ‬ويقرأ‭ ‬الشعر‭ ‬الرومانسي‭ ‬لحبيبته؟

‭ ‬حتى‭ ‬المعادن‭ ‬الصلبة‭ ‬جدا‭ ‬حين‭ ‬تتعرض‭ ‬لفرق‭ ‬جهد‭ ‬عالي‭ ‬جدا‭ ‬من‭ ‬درجات‭ ‬الحرارة‭ ‬بالتسخين‭ ‬الشديد‭ ‬والتبريد‭ ‬المفاجئ‭ ‬يتغير‭ ‬قسم‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬صفاتها‭ ‬الفيزيائية،‭ ‬فكيف‭ ‬الإنسان‭ ‬الذي‭ ‬يحمل‭ ‬منطقا‭ ‬وفكرا‭ ‬ولديه‭ ‬مخزون‭ ‬هائل‭ ‬وعظيم‭ ‬من‭ ‬الاحاسيس‭ ‬والمشاعر‭ ‬والآمال‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أن‭ ‬عطر‭ ‬زهرة‭ ‬جميلة‭ ‬ينقله‭ ‬من‭ ‬حال‭ ‬إلى‭ ‬حال‭ ‬آخر‭ ‬مغاير‭ ‬تماما‭ ‬أو‭ ‬زقزقة‭ ‬عصفور‭ ‬أو‭ ‬ترنيمة‭ ‬بلبل؟

‭ ‬وغالبية‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬تسلبهم‭ ‬الحروب‭ ‬اجسادهم‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬مدة‭ ‬هذه‭ ‬الحروب هم‭  ‬مجانين‭ ‬مقنعون‮ ‬‭ ‬ومرضى‭ ‬نفسيون‭ ‬يحملون‭ ‬اوجاعهم‭ ‬في‭ ‬صدورهم‭.‬

‭ ‬وهذه‭ ‬الأوجاع‭ ‬تمزقهم‭ ‬وتأكل‭ ‬من‭ ‬أرواحهم‭ ‬شيئا‭ ‬فشيئا،‭ ‬ويخفون‭ ‬آلامهم‭ ‬تحت‭ ‬لثام‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬المجتمع‭ ‬والعرف‭ ‬والدين،‭ ‬فما‭ ‬بالك‭ ‬من‭ ‬يقتل‭ ‬العشرات‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬المعركة‭ ‬وهو‭ ‬قبل‭ ‬الحرب‭ ‬لا‭ ‬يجرؤ‭ ‬على‭ ‬ذبح‭ ‬دجاجة‭ ‬أو‭ ‬يقف‭ ‬طويلا‭ ‬عند‭ ‬سماعه‭ ‬بكاء‭ ‬طفل‭ ‬لا‭ ‬تربطه‭ ‬به‭ ‬أي‭ ‬صلة‭.‬

‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬ذكره،‭ ‬وتطلبون‭ ‬منا‭ ‬أن‭ ‬نخرج‭ ‬صباح‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬نبتسم‭ ‬ونلقي‭ ‬التحية‭ ‬على‭ ‬الجيران،‭ ‬سلوان‭ ‬المسيحي‭ ‬هذا‭ ‬أسمه‭ ‬ولقبه‭ ‬نائب‭ ‬عريف‭ ‬مخابر‭ ‬لاسلكي‭ ‬احتياط،‭ ‬إنسان‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الكلمة‭ ‬من‭ ‬معنى‭ ‬للإنسانية،‭ ‬بطل‭ ‬لا‭ ‬يهاب‭ ‬الموت‭ ‬مطلقا،‭ ‬ولطالما‭ ‬كنت‭ ‬اتحدث‭ ‬معه‭:‬

‭” ‬أخي‭ ‬سلوان‭ ‬لا‭ ‬تجعل‭ ‬نفسك‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬هجوم‭ ‬مخابرا‭ ‬مرافقا‭ ‬للآمر،‭ ‬كن‭ ‬في‭ ‬المعركة‭ ‬معنا‭ ‬ولكن‭ ‬وجودك‭ ‬قرب‭ ‬القائد‭ ‬وانت‭ ‬تحمل‭ ‬جهاز‭ ‬المخابرة‭ ‬اللاسلكي‭ ‬على‭ ‬ظهرك‭ ‬وارسالك‭ ‬المستمر‭ ‬يعرضك‭ ‬للخطورة‭ ‬القصوى‭ ‬وأن‭ ‬أجهزة‭ ‬الرصد‭ ‬المعادي‭ ‬تستمكن‭ ‬جهازك‭ ‬بسهولة‭”.‬

‭ ‬يأتي‭ ‬الجواب‭ ‬منه‭ (‬خليها‭ ‬على‭ ‬الله‭)‬،‭ ‬والله‭ ‬أخاف‭ ‬أن‭ ‬اسمع‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬الآمر‭ ‬تجرحني‭ ‬أو‭ ‬يقول‭ ‬ها‭ ‬سلوان‭ ‬تخاف،‭ ‬سبحان‭ ‬الله‭ ‬بقى‭ ‬سلوان‭ ‬يخوض‭ ‬غمار‭ ‬الموت‭ ‬حتى‭ ‬توقفت‭ ‬حرب‭ ‬الثماني‭ ‬سنوات،‭ ‬ولكونه‭ ‬من‭ ‬مدينتي‭ ‬تعاهدنا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬نلتقي‭ ‬كل‭ ‬فترة‭ ‬زمنية‮ ‬‭.‬

وطوت‭ ‬الأيام‭ ‬صفحاتها‭ ‬ولم‭ ‬نلتق،‭ ‬وفي‭ ‬أحد‭ ‬الأيام‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬سيارة‭ ‬أجرة‭ ‬شاهدت‭ ‬سلوان‭ ‬المسيحي‭ ‬يمشي‭ ‬على‭ ‬الرصيف‭ ‬طلبت‭ ‬من‭ ‬السائق‭ ‬التوقف‭ ‬فورا،‭ ‬ونزلت‭ ‬مسرعا‭ ‬احتضنت‭ ‬سلوان‭ ‬وقبلته‭ ‬كعادة‭ ‬كل‭ ‬اهل‭ ‬العراق،‭ ‬شاهدت‭ ‬برودة‭ ‬في‭ ‬رد‭ ‬فعله‭. ‬قلت‭ ‬له‭ :‬

‭ ‬سلوان‭ ‬ماعرفتني؟

‭ ‬أجاب،‭ ‬والدموع‭ ‬تترقرق‭ ‬في‭ ‬عينيه‭: ‬كيف‭ ‬لا‭ ‬اعرفك‭ ‬انت‭ ‬أخي‭ ‬فلان‭.  ‬قلت‭: ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬جرى‭ ‬لك؟

‭ ‬أجاب‭: ‬لا‭ ‬أدري‭.‬

‭ ‬ثم‭ ‬أدار‭ ‬ظهره‭ ‬وانصرف‭.  ‬بقيت‭ ‬متحيرا،‭ ‬ذهبت‭ ‬إلى‭ ‬منطقة‭ ‬سكناه‭ ‬وسألت‭ ‬أهل‭ ‬الحوانيت‭ ‬عنه،‭ ‬وكان‭ ‬معروفا‭ ‬للجميع،‭ ‬فقالوا‭ ‬ان‭ ‬هذا‭ ‬المسكين‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬تسرح‭ ‬من‭ ‬الجيش‭ ‬نراه‭ ‬يخرج‭ ‬صباح‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬يمشي‭ ‬ويمشي‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الظهر،‭ ‬ثم‭ ‬يعود‭ ‬لبيته‭ ‬لا‭ ‬يكلم‭ ‬أحدا،‭ ‬هذا‭ ‬مثل‭ ‬بسيط‭ ‬جدا‭ ‬لإنسان‭ ‬خرج‭ ‬من‭ ‬الحرب،‭ ‬فكيف‭ ‬ولدينا‭ ‬مليون‭ ‬رجل‭ ‬خرجوا‭ ‬من‭ ‬الحروب‭ ‬يسيرون‭ ‬على‭ ‬أقدامهم‭ ‬وفكرهم‭ ‬وهواجسهم‭ ‬معلقة‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬المشؤومة‭ ‬وارتداداتها‭ ‬،‭ ‬لعن‭ ‬الله‭ ‬الحروب‭ ‬ولعن‭ ‬مَن‭ ‬اوقدها،‭ ‬ولعن‭ ‬من‭ ‬أعان‭ ‬عليها،‭ ‬الرحمة‭ ‬والخلود‭ ‬لكل‭ ‬الأرواح‭ ‬المظلومة‭ ‬التي‭ ‬سلبت‭.‬


مشاهدات 709
الكاتب قيس الدباغ
أضيف 2023/10/27 - 11:20 PM
آخر تحديث 2024/07/16 - 9:24 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 275 الشهر 7843 الكلي 9369915
الوقت الآن
الخميس 2024/7/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير