الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
رواية تغريبة القافر.. سردية تتضمن معايير ناضجة تستحق البوكر

بواسطة azzaman

رواية تغريبة القافر.. سردية تتضمن معايير ناضجة تستحق البوكر

 

حمدي العطار

هناك مجموعة من المعايير إذا الروائي التزم فيها تجعل الرواية ناضجة فنيا وتستحق أن تخطف الجوائز بالمسابقات . وفي مسابقة البوكر التي يتنافس على الجائزة 99 روائي وينتج عنها قائمة البوكر الطويلة ومن ثم قائمة البوكر القصيرة التي تتكون من 5 روايات. ورواية واحدة تفوز ومن وجهة نظري المعايير المعتمدة في اختيار الفائز هي :-

1 - المنظومة اللغوية : الروائي الجيد هو القادر على استخدام المنظومة اللغوية بطريقة منفصلة عن الأنظمة اللغوية المستقرة الأمر الذي يؤدي إلى توسيع المدارك وتحدي الفهم السائد، فاللغة السائدة التي استخدمها ( زهران القاسمي) لا تشبه اللغة العادية.هناك مسافة بينها وبين اللغة الإبداعية.

2,- أساليب تمثيل الواقع:- تمثل الواقع ليس بطريقة النسخ او بأسلوب الكتابة الصحفية؛ مما لم يتم طمس الواقع في رواية ( تغريبة القافر) أو الغاءه؛ فنحن أمام قرية عمانية في زمان غير معروف , ثيمة القصة واقعية جدا هي ( البحث عن الماء) وعدم وجود الماء يدفع الناس إلى الرحيل ( التغريبة) ، وتبدأ الرواية بموت ( مريم) ام القافر وتنتهي بموت ( القافر)  وفي المكانين  يأتي بعد الموت الخصوبة  والخضرة  والرفاهية.

3 - الروائي زهران القاسمي في هذه الرواية كان قادرا على منح القارئ طريقة جديدة لرؤية العالم أو منحه خبرة جديدة تستند إلى الخبرات التي سبق أن حصل عليها من العالم.

4 - الروائي زهران كان يملك القدرة على إضفاء معنى على الحياة بطريقة لا يمكن اضفاءها من خلال الخطابات النظرية ولا من خلال الخطابات الأخلاقية العملية الموجهة

5 -  المعيار الأخير الذي جعل رواية ( تغريبة القافر) أن تفوز بجائزة البوكر 2023 هو وجود جانب أخلاقي كحد أدنى ومستوى معين يمثل الجانب الجمالي.

في هذه السردية ينسى القارئ انها عملا فنيا، لأنها تخلق وهما قويا على المستوى السردي ويشعر القارئ ان كل شيء في النص التخييلي ادعاء بالاهمية ، والروائي نجح في خلق الالغاز المتكررة والمعكوسة ويعاد عكسها ، وفي التفاعل مع النص يتلمس القارئ مدى معاناة المؤلف وهو يدخل عنوة في وهم الواقع.

اشكالية عتبة العنوان

تنافست رواية زهران القاسمي من سلطنة عمان (تغريبة القافر) مع خمس روايات في القائمة القصيرة وهي (رواية الشمس المشرقة) للكتابة المصرية «ميرال الطحاوي» ورواية ( منا) للكاتب الجزائري  «الصديق حاج أحمد»

و(رواية حجر السعادة) للروائي العراقي «أزهر جرجيس» ورواية (كونشيرتو قورينا إدوارد) للكاتبة الليبية  نجوى بن شتوان « ورواية (الافق الأعلى) للكاتبة السعودية  فاطمة عبد الحميد ، واكدت لجنة البوكر على لسان رئيسها «محمد الاشعري» ان رواية (تغؤيبة القافر ) للروائي «زهران القاسمي» اكدت على أسطورة الماء وتجلياتها  في ذاكرة الناس ومخيالهم الجماعي «!وارى من الضروري قراءة جميع روايات القائمة القصير للبوكر!

اشكالية عتبة العنوان

ان التركيز على ثيمة الماء في رواية» تغريبة القافر» قد يجعلنا في اشكالية فلو كان يرغب زهران القاسمي بجعل ثيمة الماء او (اسطورة الماء) هي الموضوع الوحيد في الرواية لكان عنوان روايته (القافر) وهو يعني الباحث او مكتشف عن الماء! لكن وجود كلمة (تغريبة) جعل الامر مناصفة بين ثيمة الماء ومفهوم الرحلة المستمرة والمتعددة في هذه الرواية!

قد يفهم القارئ كلمة (التغريبة) من خلال تداولها في القاموس السياسي ! فهي تعني ( الهجرة ) او الانتقال من مكان الى آخر بسبب ظروف قاهرة ، كأن تكون سياسية او عسكرية او طبيعية ، وكلنا يسمع (بالتغريبة الفلسطينية) للكاتب الفلسطيني «وليد سيف» والتي تتحدث عن طرد وهجرة الفلسطينيون من فلسطين بسبب الاحتلال الاسرئيلي لأراضيهم! وفي الرواية سبب الرحلة لمجموعة من الشخصيات لم يكن فقط للبحث عن الماء فشخصية (إبراهيم بن مهدي ) زوج (آسيا بنت محمد) المرضعة للقافر (سالم عبد الله) بعد موت امه مريم لم يكن رحيله في البحث عن الماء بل لأنه يملك طموحا لا يمكن ان يحققه في قريته «»كان رجلا رطب السان، يجيد التحدث والإصغاء، يركب الجمل بسلاسة ساحر، وكل من يستمع إليه يبقى مأخوذا بكلامه في قرية لم يعتد أصحابها إلا الحديث المباشر الفج»ص34 ، عليه هو يبحث عن نفسه في مكان آخر وتغريبته تختلف عن تغريبة سالم عبد الله (القافر) «مكانك ما هنا، هذي البلاد ما بتنفعك بشي، لازم تروح « لكن زوجته كما هو السارد زهران يحاول ان يربط كل تحرك او سفر بمعاني الماء فتقول زوجته آسيا لنفسها «هل تحول شوقه إلى الابناء – آسيا لا تلد الا البنات ويمتن- عطشا جعله يتركها وحيدة ويسافر الى مسقط؟» ص35 ، هو اعطى ايحاء للجنة التحكيم ان كل شيء يرتبط بالماء، كما توجد تغريبة لشخصيات اخرى في الرواية مثل الوعوري الذي يحدث نفسه متعجبا « كيف يقضي الناس كل حياتهم في مكان واحد لا يبرحونه؟ وكيف يهابون المضي وحيدين إلى الأمكنة البعيدة خوفا من الجن والشياطين والسحرة؟وكانت متعته المثلى إيقاد النار في مكان بعيد ليعد قهوته أو ليشوي اللحم»ص101، وعبد الله بن جميل كان يعزل نفسه او يرحل  ولم يكن سببها عدم وجود الماء! لكن  هذه السردية شاء البعض ان تكون  التغريبة تابعة (القافر) وهو الشخص الذي يكتشف الماء ! وبهذا احساس القافر بالغربة يجعله غير سعيد بصورة مستمرة، وقد يرجع سبب تعاسته ان امه « مريم بنت حمد ودغان « قد ماتت غريقة وكانوا يطلقون عليه ( أبن الغريقة) وتعب كثيرا وعانى من هذه التركه حتى اثبت قدرته في ان يشم الماء وهو تحت صخور الجبال وانقد قريته والقرى الاخرى من المجاعة والجفاف وجلب لهم الخير والرفاهية فإطلقوا عليه (القافر) اي مكتشف الماء!

البناء الفني

استخدام الروائي الاسلوب الكلاسيكي في السرد (السارد العليم) حتى يسرد قصصا لشخصياته العديدة من دون اللجوء الى الحيل السردية للسارد من داخل السرد او تعدد اصوات السرد فهو يضحي بالاستبطان الداخلي من خلال ضمير المتكلم لكي يلعب بدور السارد العليم بكل القصص ، وبذلك ظهرت الشخصيات الثانوية ناضجة سرديا فضلا عن شخصية البطل الرئيسية (القافر) .

الاستهلال المشهدي

 شخصية الام الغريقة (مريم) التي تظهر بالاستهلال  المنادي بالقرية ( غريقة) – يستخدمها الروائي لتقديم مشهد استهلالي ليتعرف القارئ على معظم شخصيات الرواية وحتى صفاتهم  (مريم – كاذية- عبد الله بن جميل- حمدان بن عاشور- حميد بو عيون يمتلك حدة البصر-  الوعري – ر جل شهم، طويل بجسم قوي- والشيخ حامد بن علي- رجل الدين في القرية-   وآسيا المرضعة وسيف بن حمود - شجاع لا يخاف! وقد توفق الروائي بإن تكون بداية الرواية عن طريق حدث يهز القرية ويضع القارئ امام الشخصيات في استعراض سردي متداخل للشخصيات وعلاقتهم بالغريقة ، مستخدما جمل نثرية تقترب من الشعر من خلال صورة شعرية مثل ( قامت عجوز معمرة حاولت اللحاق بالطارش متكئة على هرواتها) (وهب شاب قصير من استلقائه وخرج يركض ولم يتوقف إلا عند البئر) و (نباح كلب في الحارة الاخرى) و(صرقعة دجاجات في ضواحي النخل) و( نهيق حمير في عمق الوادي) وصف للصورة والصوت (نباح كلب..صرقعة دجاجات، نعيق حمير) ..صوت الصدى يتردد في الجبال صوت طبل ضخم والريح تصفر ..ساخنة تلفح الوجوه وتعصف بسيقان الشجر، (الهياج) لسماع الطارش – حمدان بن عاشور- كلمة (غريقة)

الغرائبية في السرد

فضلا عن الغرائبية في الاستهلال لكنها غرائبية مقبولة من قبل القارئ ،فالام مريم عندما تموت وهي حامل فالطفل في بطنها لا يعيش الا دقائق وينقطع عنه الهواء فيموت معها ! لكن الفن يتجاوز العلم بالخيال وليجعل الروائي شخصية (سالم) القافرمرتبط بالحياة ومرتبط بالموت «في بطنها حياة ، في بطنها حياة» – هل يجوز فتح بطن الميتة واستخراج جنينها أم يجب ان تدفن معها؟، ساد الهرج واللغط بين الناس، لكن الشيخ (حامد بن علي) وهو الرجل الذي يستمع اليه كل الناس :قال لهم وقد هب من جلسته في الطرف القصي من الحضرة : (بو فبطنها اولى به الدفن) اتكأ الشايب «حميد بو عيون» على جذع نخلة – ايش وازنك تحرم وتحلل فإرواح الناس - الشرع يقول كذا- الشرع هذا تتحمله بعنقك الى يوم القيامة- لك انت مو دخلك فشي ما تعرفه؟- لكن هذي حياة، تدفن إنسان حي في التراب وتحكم عليه بالموت وتقول شرع.

وفي خضم النزاع القائم، وغفلة الناس، سحبت «كاذية بنت غانم» سكينا من حزام أحد الحاضرين ورفعت ثوب الغريقة وشقت بطنها ثم ادخلت يديها لتخرج الطفل من الرحم) ص14 وص15 .

الحكاية والحبكة

نسج الحكاية والحبكة يبدأ من دون تمهيد ومقدمات ، وجميع الحاضرون قرب البئر والواقفين امام جثة الغريقة مريم ، ومنذ هذه الحادثة التي تبدأ السماء  بهطول امطار غزيرة عند دفن الجثة ، وكأن التأويل يرى في موت مريم يقابله وفرة في الماء والخصب وحقول خضراء ممتدة فيها شتى انواع الزرع!

وتتداخل القصص لهذه الشخصيات الثانوية مع بعضها وتبقى البطولة لشخصية الطفل التي ماتت امه وعاش ليكون له الفضل بانتشار الخير والرفاهية على قريته وباقي القرى، بينما يكون نصيب هذه العائلة بعد الام الغريقة ليكون الاب يتعرض للغرق وكذلك ( القافر) يموت بالماء الذي طالما كان يشم رائحته ويطلب من الاخرين الحفر للتخلص من الجفاف والمجاعة.» – الماي ما هنا، الماي هناك. وأشار إلى نقطة قد تعداها الحفر، وهي في اتجاه اليسار بعيدا عن مسار الفلج، لكن عبد الله بن جميل خاف سخرية الناس فسكت ولم يسجب لما قاله ولده..- وبعد ان يسخر الجميع من سالم ومن ابيه عبد الله- وضع سالم بن عبد الله أذنه على جدار القناة،أغمض عينيه وانفصل عن الضجيج من حوله. سمع الهدير في الارض يناديه، فحدد مساره، طوله وعمقه، ثم فتح عينيه ونظر إلى القناة الطويلة التي استمر حفره لأيام ، وسأل نفسه:- لو حفرنا هنا من الاول ما كان أحسن؟»ص117

غياب الترتيب

السردية في هذه الرواية على الرغم من عدم كتابتها بالترتيب الزمني حسب الاحداث فالرواية تبدأ من اامنتصف ثم يبدأ السرد بالاسترجاع والذكريات لتعبئة الفصل التي يسبق هذا الحدث فنتعرف على خلفية الشخصيات الرئيسة في الرواية، وغياب الترتيب ساعد الروائي على التخلص من قفل كل فصل وسمحت له هذه الطريقة بحرية الانتقال من فصل الى آخر من دون ارتباك فني! وبذلك حقق جوانب فنية وتقنيات سردية متطورة.

أدراك النص من المتلقي

تحتوي اي رواية على الجوانب الفنية والتي تكون داخل النص الذي ابدعه الكاتب، اما الجوانب الجمالية فهي لدى القارئ وتتلخص في الادراك الذي ينجزه القارئ ، والنص قد لايبدو من الوضوح والتطابق مع هذه القطبية الثنائية ( في  النص) او مع ( ادراك النص) بل ان النص يشغل منطقة وسطى بين القيم الجمالية والفنية! فالروائي مهما كان عبقريا لا يعرف حدود اللياقة والذوق الرفيع ليغطي كل الجوانب الجمالية للقارئ فهناك مساحة واحترام حقيقي يمنح  لفهم القارئ بحيث يمكن للقارئ مشاطرته في هذا الموضوع وديا وان الروائي يترك له شيئا ما يتخيله حسب مزاجه وهذا يأتي من اهمال الروائي لبعض الجوانب اللامكتوبة في الرواية ويعتقد ان من حق القارئ سوف يملأ هذه المساحة من خلال استجابة القارئ للنص!

بناء الشخصيات

رواية ( تغريبة القافر) التي تقع في 228 صفحة وتتكون من 11 فصلا، هي عبارة عن مجموعة قصص لشخصيات الرواية ، فضلا عن القصة الرئيسة للقافر وكل الشخصيات ترتبط مكانيا وزمانيا في القافر ، واستخدم الروائي (زهران القاسمي) تقنية الاسترجاع لسرد هذه القصص ، والانتقال من شخصية الى اخرى جعل الرواية مثيرة والاكثر تشويقا !فهناك قصة الام الغريقة « مريم بنت حمد ود غانم» التي تزوجت « عبد الله  بن جميل» وهي خياطة ماهرة وزوجها اختار مكانا معزولا بالقرب من مقبرة قديمة اندثرت، كانت سعيدة في حياتها ولا يعكر صفو سعادتها الا تأخر حملها لمدة 5 سنوات يقول البعض بسبب (وحشة المكان ومجاورته للقبور) ، وبعد الحمل تعرضت الى نوبات صداع تشعر ان هناك مطارق تضرب برأسها، تركت الخياطة وصار همها الوحيد التخلص من الصداع، واكتشفت بإنها اذا اغمضت عينيها ونزلت الى حوض الماء بجانب البئر يذهب منها الصداع لفترة زمنية، كما انها حصلت على دواء من بائع متجول ذهب عنها الصداع وما ان انتهى الدواء حتى رجع اليها! واصبح الطرق يأتيها في الحلم وتطور الحلم الى صوت يناديها من عمق البئر لا قرار له ،فترى نفسها تهبط بالحبل حتى قعر البئر وعندما تدخل رأسها في الماء تشفى من الصداع ، « وفي يوم تدلت هابطة في البئر وأذ ثقل جسدها على الحبل افلتت يديها وسقطت في الهوة العميقة» وماتت الغريقة! وما ان تنتهي قصة مريم الغريقة حتى ينقلنا الروائي الى قصة آسيا المرضعة التي فقدت بناتها الخمس وصارت هي من ترضع (القافر) الذي سمي (سالم) لأنه لم يمت مع امه! ويدور الحديث عن الحسد الذي جعل المرضعة آسيا تفقد بناتها ومن ثم يسرد لنا الروائي قصة زوجها «ابراهيم بن مهدي» – كان رجلا رطب اللسان، يجيد التحدث والاصغاء، يرتب الجمل بسلاسة ساحر، وكل من يستمع إليه يبقى مأخوذا بكلامه في قرية لم يعد اصحابها الا الحديث المباشر الفج»ص32 وينصحة احد الشيوخ ( الشيخ عيسى بن حمدان) بعد ان يزور القرية ويستحسن حديثه بإن هذا المكان لا يناسبه وعليه الذهاب الى (مسقط) العاصمة «مكانك ما هينا هذه البلاد ما بتنفعك بشيء لازم تروح مسكد «ص 33 ، فيسمع نصيحته ويترك قريته وزوجته آسيا  التي كان يقول لها دائما ( انت عطشي وانت الماي) ليرحل وتنقطع اخباره الى ان يأتي احد المسافرين ويطلب من آسيا الذهاب الى زوجها ابراهيم فهو يعاني من الغربة والمرض!

ومهما كانت تلك القصص حزينة ومؤلمة فاهل القرية لا تتوقف عندها كثيرا وكما يعبر عن ذلك الروائي (ذهب كل ليغرق في تفاصيل حياته واشغال يومه)!

قصص متداخلة ليس لغرض التداخل بل تصب في خدمة السرد والفلاش باك والاسترجاع جزء من تطور السرد الدرامي ، وجميع الشخصيات لها سلوك غرائبي يصعب تفسيره بما مكتوب بل يتطلب استجابة واعية من القارئ حتى تنكشف الجوانب الجمالية للسردية!

*الملاحظات النقدية

تفاجأت كثيرا وانا ارى الوصف الاجتماعي للبيئة الريفية في سلطنة عمان في هذه الرواية ، فهو مجتمع صوره لنا الروائي بإنه ( مجتمع غير متضامن) في المجتمعات التقليدية يتم تقدير أصحاب المواهب لندرتهم كأن يكون شخص له قدرة على علاجهم او شخص شجاع وقوي يدافع عنهم او شخصية مثل القافر ينقذهم من العطش والجوع والفقر! لكننا في هذه الرواية لاحظنا ان المجتمع لا يحب هؤلاء او يسخر منهم ولا يتقبلهم، مثلا مريم بنت حمد ود غانم وهي ام البطل (القافر ) «كانت أفضل من يطرز الثياب في القرية، لها يد خفيفة ، سريعة ،ومتقنة لصنعتها، فغارت منها النساء الاخريات» وعندما تمرض وتسمع اصوات تخيفها وتسبب الصداع لها ولا يغادرها الصداع الا اذا وضعت رأسها في الماء «قالوا عنها إنها مجنونة، وقالوا اصيبت بالحسد لجودة صنعتها، والبعض أكد ان ساحرة دخلت بيتها وسقتها شيئا بدل حالته» اما عندما يغرق احد في هذه القرية فان سبب الذهاب الى البئر ليس لأننقاذه بل لأن «الخوف دب في قلوبهم ، وزاد فضولهم الظليلة، وخرجوا الى البئر مهرولين»ص9 .منتهى الانانية !!

*شخصية الملاق

هو ابراهيم بن مهدي شخصة مختلفة لم يستغلها الروائي بشكل مناسب ، فهو الشخصية الوحيدة في الرواية التي يمكن توصيفها (بالمثقف) «أطلقوا عليه لقب الملاق وبرغم جلافة المعنى الدال على النفاق فقد أعجبه اللقب، وكلما نودي به علت ضحكته وأومضت السعادة في عينيه»ص34 وعندما يقرر الرحيل عن القرية لأنه ليس المكان المناسب لمثله «مكانك ما هنا، هذي البلاد ما بتنفعك بشيء، لازم تروح مسكد» يقصد مسقط هذه نصيحة الشيخ عيسى بن حمدان! لكن الروائي لم يعطي للمثقف اي دور في الرواية وجعل ابراهيم بن مهدي يعمل حمالا او دلال اراضي ثم يمرض ويكاد ان يموت وتسعفه زوجته آسيا! «عندما ذهب إبراهيم بن مهدي إلى مطرح، ظل فيها شهورا ينتقل من عمل إلى آخر، فعمل حمالا في الميناء، وبائعا عند أحد تجار الحبوب، ودلالا في سوق الجملة ، وبائع حمير، وغير ذلك .لكنه لم يثبت في عمل واحد، إذ  كان يبحث عن شيء لا يوجد إلا في داخله»ص58 هل يتصرف المثقف بهذا الشكل المتخبط!.

*الصراع مع الطبيعة

في رواية همنغواي الشيخ والبحر ، لم يجعل الانسان يهزم البحر ولم يستسلم الانسان للبحر! وفي العنوان قدم الانسان على البحر !ورجع الصياد مع بقايا الهيكل العظمي للسمكة الكبيرة اي جعل الصراع مفتوحا! بينما زهران القاسمي في رواية تغريبة القافر جعل الطبيعة تتغلب على الانسان حتى الماء الذي هو اساس الحياة جعله سببا للموت فإخذ مريم ثم زوجها عبد الله وانتهى بموت القافر سالم، في تاريخ البشرية ما تغلبت الطبيعة على الانسان والا كانت حياة الانسان انتهت !وكان الانسان اقوى من الطبيعة والا ما كان عاش ملايين السنين ، الانسان  يصارع الطبيعة وهو من يتكيف مع الطبيعة ويعيد صياغتها  ويجعلها في خدمته!

*الثرثرة المفيدة

الثرثرة في السرد شي مهم منها تعرف من عدوك ومن هو صديقك وهي شيء اساسي في الجماعات البشرية تعرف من يمرض ومن يموت ومن يكون لديه مناسبة فرح وحزن  وليس كما يصفها زهران القاسمي «يصومون عن الاكل والشرب، وقد يصبرون على الجوع والعطش، ولكنهم لا يصبرون على الكلام»ص134

يقول زهران القاسمي بأنه ثيمة الرواية هو (العطش المادي والمعنوي) وهو يقصد بإن المجتمع الذي يمثل البيئة الريفية في عمان (غير جيد) اي فقير حال ومال!

*غياب ملامح السلطة

البيئة التي اختارها الروائي كمكان كانت تفتقر الى تحديد زمن الرواية، ونحن لا نعتقد ان الزمان قديم جدا ليكون هناك غياب السلطة أو وجودها بشكل ضعيف! وهناك دليل  على ان الزمن يجب ان تتوفر فيه السلطة ، وعلى الرغم من وجود الشيخ في القرية ووكيل المياه لكن دورهم كان غير مؤثر وغالبا ما يفشلون، اما اعتقادنا ان الزمن ليس قديم جدا موجود في  هذا المقطع الذي يذكر فيه البندقية « صبيحة تصرخ وهي تشير الى سلام:- هذا ما ولدي، ولدي أخذوه الجن- السبب ان الرعوي عندما كان طفلا عيونه حمراء- ، هذا ولدهم، بدلوا ولدي وخلولي هذا . ثم قامت فأمسكت بيد الطفل وسحبت لتخرجه من البيت وهي تقول:- روح عند اهلك ، هذا ما بيتك ، وخبرهم يجيبوا ولدي . حاول الولد التملص من قبضتها فأحكمتها عليه، ثم أمتدت يدها الثانية إلى وجهه وبدأت تخدشه، وما افلتت يده إلا لتقبض على عنقه محاولة خنقه. وعبثا حاول زوجها فك يديها على رقبة الطفل. كانت تضغط بكل قوة والولد يختنق وعيناه تجحظان، وفي غمرة ذلك تناول الأب بندقيته وضرب رأس زوجته بكعبها فألقاها صريعة على الأرض، وقف عامور ممسكا بندقيته ينظر الى جسد زوجته المطروح على الارض، والى ولده الذي لم يكف عن مناداة أمه والبكاء عليها، ثم خرج من البيت. ذهب إلى الوالي وسلم نفسه واعترف بقتل زوجته، ولم يعد بعدها إلى البلاد ، ولا سمع عنه شيء»ص94

*آسيا وكاذية

شخصية آسيا مرضعة (سالم) ايضا تختفي وينتهي دورها عندما تذهب الى زوجها الذي يعيش في قرية (الغافتين) فهي تلتقي بزوجها المريض (ابراهيم بن مهدي) تبقى معه تداويه وترعاه حتى يقوى ويرجع للعمل وينتهي دورهما في الرواية عند الصفحة 63 في الفصل الثالث وهو لا يستقيم ان تختفي الشخصيات الرئيسة في الربع الاول من الرواية ولا تعود لتظهر في المكان الرئيس للرواية (لكن قرية الغافتين كانت المكان الذي ارتاح له وأعجبه، فاستقر فيها جاعلا من ظل تلك السدرة بيتا له)ص59

اما كاذية عمة سالم وصارت امه بعد موت مريم فهي عانس وكذلك خواتها كلهن عوانس! البيئة التي يعيشن فيها لا تبقى المرأة من دون زواج ! اما سبب عدم زواجها من الوعري فهو غير معقول- يسألها الطفل سالم : وليش ما تزوجيتيه؟ ضحكت كاذية من سؤال طفلها، ثم اجابته وقد غطت شفتيها حياء» – انا اتزوج الوعري؟ تريد الناس يقولوا ما تزوجت طول عمرها وما بغت غير الوعري. هرش الطفل رأسه، محاولا فهم الفكرة، كيف يمكنها أن تهتم بشخص وترفضه في الوقت ذاته؟»ص95 وحقا تساؤل الطفل مشروع ومبرر !

الخاتمة

بعد ان حوصر سالم عند خاتم الفلج مشجوج الرأس ولم ينج منها بدأ شريط الذكريات يلح عليه تحدث مع نفسه عن فلج السرى في بلدة الرفيعة وكيف كان يردد في داخله «هذيلا ما ناس، هذيلا عفاريت» وربما قال ذلك لأنه يعرف الحكاية القديمة التي يعزو الناس فيها حفر الأفلاج إلى النبي سليمان ، ومفادها أنه مر بعمان وهو على بساط الريح، وقد اصابه شيء من العطش، فقرر الهبوط إليها ليشرب، لكنه وجد البلاد قاحلة، جافة، فأمر جنوده من الجن بحفر الأفلاج في كل مكان، فحفروا في الصحاري، والوديان وشقوا الصخور والجبال وأجروا المياه في قنواتها ، حتى قيل إنهم حفروا أكثر من الف فلج في ليلة واحدة»ص220

ولم نفهم كيف يتم توزيع المياه (على طول الظل) – كل شخص في القرية يمكنه أن يحضر الماء بقياس ظله- وهنا في الاخير يظهر الشيخ ووكيل الفلج ليمنعون اثنين هما (سليمان ود منصور، وعبيد بن حارث.

*اشكاية نصرا زوجة القافر

اذا اردنا ان نتحدث اخيرا عن شخصية «نصرا بنت رمضان»  وهي  تصر على انتظار زوجها سالم لسنوات تعتقد انه لم يمت وسوف يعود وهنا يظهر معنى صورة (المغزل ) في الغلاف ، لأن كلما يلحون عليها اهلها كي تنسى القافر وتتزوج غيره ترفض قائلة لا اتزوج حتى اغزل هذا الصوف «- من اخلص غزل كل هذا الصوف، أوعدكم زوجوني وين ما تريدوا / وعندما قال واحدا اخر من إخوانها:- ومتى بيخلص هذا الغزل؟/ ردت عليهم بهدوء تام – بيخلص يوم يخلص.../ بدأ المغزل في الدوران، بدأت خيوط الصوف تمتد بتأن وصبر. كل خيط بمثابة زمن طويل لا ينتهي، كل خيط يمضي مع الأيام والشهور، يتنامى حتى تخاله لا حد له مطلقا ، وكلما انتهى خيط من خيوطها ، بدأت في غزل آخر»»ص213 لعل هذا الموقف فيه تناص مع ملحمة الاوديسة اذ تبقى بينيلوبي بانتظار زوجها اوديسيوس (20 عاما) مشغولة في (غزل الصوف) ممتنعة عن الزواج، رغم العروض الكثيرة التي تتلقاها  وتنتهي الملحمة بوصول زوجها الى إثياكا  وقيامه بالانتقام من الذين اضطهدوا زوجته بتلك الفترة لكن الروائي « زهران القاسمي» لم يجعل القافر يعود لتقر عيون زوجته نصرا بنت رمضان لكنه اختار لها هذا الموقف ! لتنتهي الرواية بهذا المقطع الرائع ليعبر عن الوفاء «واستمر اهلها يجيئون لزيارتها فيجدونها على تلك الحال، ما إن تنتهي من اعمال بيتها حتى تجلس أمام مغزلها وتفتح باب الأبدية في انتظار الخيط الذي سيأخها إلى البعيد، كأن كل خيط درب يأخذها لتبحث عن زوجها في الوديان والجبال، بين الأشجار الكثيفة ومغاور الصحراء والسيوح الممتدة، لعلها تصادف الرجل الذي احتفظت به في ذاكرتها، الرجل الذي طال النسيان كل شيء فيها إلا وجهه»ص215


مشاهدات 681
أضيف 2023/10/20 - 4:37 PM
آخر تحديث 2024/07/16 - 1:55 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 334 الشهر 7902 الكلي 9369974
الوقت الآن
الخميس 2024/7/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير