الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
قصة‭ ‬من‭ ‬دفتر‭ ‬أصابعي

بواسطة azzaman

قصة‭ ‬من‭ ‬دفتر‭ ‬أصابعي

علي السوداني

عدتُ‭ ‬البارحة‭ ‬متأخراً‭ ‬من‭ ‬المقهى‭ . ‬أدرت‭ ‬أكرة‭ ‬الباب‭ ‬فلم‭ ‬تستجب‭ . ‬في‭ ‬المحاولة‭ ‬الثانية‭ ‬اكتشفت‭ ‬أن‭ ‬ثلاثاً‭ ‬من‭ ‬أصابع‭ ‬يدي‭ ‬قد‭ ‬قطعت‭ ‬من‭ ‬منابعها‭ . ‬شعرت‭ ‬بحزن‭ ‬عظيم‭ ‬كاد‭ ‬يسقطني‭ ‬ويفتك‭ ‬بي‭ . ‬هاتفت‭ ‬نادل‭ ‬المقهى‭ ‬وسألته‭ ‬عن‭ ‬الأمر‭ ‬،‭ ‬قال‭ ‬امنحني‭ ‬دقيقة‭ ‬كي‭ ‬أفتش‭ ‬تحت‭ ‬طاولتك‭ ‬وأوافيك‭ . ‬بعد‭ ‬أربع‭ ‬دقائق‭ ‬قلقات‭ ‬أخبرني‭ ‬الفتى‭ ‬الأمين‭ ‬أنه‭ ‬وجد‭ ‬خنصري‭ ‬وبنصري‭ ‬في‭ ‬مرمدة‭ ‬السجائر‭ ‬،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يعثر‭ ‬حتى‭ ‬اللحظة‭ ‬على‭ ‬إصبعي‭ ‬الوسطى‭ .‬

في‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬هبطت‭ ‬إلى‭ ‬قاع‭ ‬المدينة‭ ‬نازلاً‭ ‬الجبل‭ ‬مشياً‭ ‬وموزعاً‭ ‬نظراتي‭ ‬الحادة‭ ‬على‭ ‬جانبي‭ ‬الرصيف‭ ‬الطويل‭ ‬وقد‭ ‬سبقني‭ ‬خشمي‭ ‬الذي‭ ‬صار‭ ‬مثل‭ ‬عكازة‭ ‬أعمى‭ ‬،‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬جدوى‭ ‬تذكر‭ ‬حتى‭ ‬مع‭ ‬الأمل‭ ‬الذي‭ ‬منحتني‭ ‬إياه‭ ‬قطة‭ ‬شرسة‭ ‬كانت‭ ‬تتلمظ‭ ‬بباب‭ ‬برميل‭ ‬القمامة‭ .‬

بباب‭ ‬المقهى‭ ‬كان‭ ‬جمال‭ ‬زهران‭ ‬ينفث‭ ‬دخان‭ ‬سيجارته‭ ‬بقوة‭ ‬تشبه‭ ‬فوهة‭ ‬عالية‭ ‬ترتقي‭ ‬على‭ ‬مصنع‭ ‬طابوق‭ ‬عتيق‭ . ‬صافحته‭ ‬وهو‭ ‬شمام‭ ‬الواردات‭ ‬والشاردات‭ ‬وسألته‭ ‬ببقيا‭ ‬صبر‭ ‬عزيز‭ ‬عن‭ ‬اصبعي‭ ‬التي‭ ‬فقدتها‭ ‬أمس‭ ‬،‭ ‬فكان‭ ‬جوابه‭ ‬العبقري‭ ‬بمثابة‭ ‬بعض‭ ‬حل‭ ‬وأشار‭ ‬بإصبع‭ ‬السبابة‭ ‬نحو‭ ‬كناس‭ ‬الشوارع‭ ‬المنهمك‭ ‬في‭ ‬لملمة‭ ‬فوائض‭ ‬ومخلفات‭ ‬الناس‭ .‬

أخبرني‭ ‬صديقي‭ ‬الكناس‭ ‬الأخضر‭ ‬بأنه‭ ‬سمع‭ ‬البارحة‭ ‬أنيناً‭ ‬مكتوماً‭ ‬خافتاً‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬غطاء‭ ‬فتحة‭ ‬مجرى‭ ‬الماء‭ ‬الخفيف‭ ‬،‭ ‬فذهبت‭ ‬معه‭ ‬إلى‭ ‬المشبك‭ ‬المشكوك‭ ‬به‭ ‬الآن‭ ‬،‭ ‬لكن‭ ‬الصوت‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬اختفى‭ ‬تماماً‭ ‬ولا‭ ‬توجد‭ ‬أي‭ ‬إشارة‭ ‬ممكنة‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬وجود‭ ‬بقايا‭ ‬إصبع‭ ‬هنا‭ .‬

أكلت‭ ‬درج‭ ‬المقهى‭ ‬بعشرين‭ ‬ثانية‭ ‬وكان‭ ‬على‭ ‬بابها‭ ‬العالي‭ ‬النادل‭ ‬حمادة‭ ‬الحزين‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يمهلني‭ ‬فرصة‭ ‬تأليف‭ ‬سؤال‭ ‬الفقد‭ . ‬زرعت‭ ‬ببطء‭ ‬وخذلان‭ ‬حقيبة‭ ‬كتفي‭ ‬فوق‭ ‬مائدتي‭ ‬الراسخة‭ ‬واستدرت‭ ‬صوب‭ ‬المرحاض‭ ‬علني‭ ‬أجد‭ ‬الفقيد‭ ‬الثمين‭ ‬غارقاً‭ ‬بفم‭ ‬المقعد‭ ‬الفوار‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬مسند‭ ‬المرآة‭ ‬أو‭ ‬تحت‭ ‬انبوب‭ ‬المغسلة‭ ‬وما‭ ‬حولها‭ ‬،‭ ‬ثم‭ ‬عدت‭ ‬الى‭ ‬طاولتي‭ ‬مخذولاً‭ ‬مثل‭ ‬راية‭ ‬منكسة‭ ‬على‭ ‬أخير‭ ‬الحرب‭ .‬

لم‭ ‬يبق‭ ‬أمامي‭ ‬سوى‭ ‬مواساة‭ ‬روحي‭ ‬اللائبة‭ ‬واستعمال‭ ‬نعمة‭ ‬النسيان‭ ‬والقبول‭ ‬بالقدر‭ ‬،‭ ‬وبينما‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬طريقي‭ ‬الى‭ ‬صنع‭ ‬قناعة‭ ‬كاملة‭ ‬بهذه‭ ‬الخسارة‭ ‬المجلجلة‭ ‬،‭ ‬ظهر‭ ‬على‭ ‬شاشة‭ ‬التلفزيون‭ ‬مذيع‭ ‬نشرة‭ ‬أخبار‭ ‬المساء‭ ‬،‭ ‬ومع‭ ‬أول‭ ‬نبأ‭ ‬قصف‭ ‬أذني‭ ‬شعرت‭ ‬ثانية‭ ‬بعظم‭ ‬المصيبة‭ ‬وحاجتي‭ ‬الملحاحة‭ ‬لتلك‭ ‬الإصبع‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬نابتة‭ ‬وسط‭ ‬كفي‭ 


مشاهدات 606
أضيف 2023/02/28 - 3:08 PM
آخر تحديث 2024/07/14 - 4:32 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 303 الشهر 7871 الكلي 9369943
الوقت الآن
الخميس 2024/7/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير