ملحميات عبد الرزاق ياسر تعيدنا لأكتشاف قواعد الرسم الشرقي الأولى
سرديات الصبي الهادي في ثياب الحداد
فاروق سلوم
كلما تأملت صور الرسام عبد الرزاق ياسر – 1947 مع لوحاته وتخطيطاته الحبرية والملونة، تلفتني ملامحه الموغلة في الزمن النهريني الطيني الفطري الاول.
انه وارث كل ذلك التراكم الجنوبي من الزمن الصعب والحزن الموروث والفقر والصمت .. والانتظار.
لاملمح من ملامحه يحمل قسوةً او تجهما ، بل ان وجهه يحمل كل انتظارات القدرية النهرينية التي ترسم امل الغد و الخبز ، وطلاقة الحزن وحلم الحرية الذي طال انتظاره.واذ اتناول بالبحث والقراءة لوحاته الملحميه الملونة ذات الخصوصية النهرينينية في بنيتها وموضوعاتها ومرونتها واستيعابها عناصرَهُ الأسلوبية الخاصة ، اجد ان الأنشغال بقراءة تلك الأعمال الكبيرة ذات الأنساق الحديثة ، يجنبني الدخول في بحث جذورالرسم الملحمي وتأثيرات فن المنمنم ، والفنون الشرقية القديمة . لكنني افضل هنا التنويه الى ان الكثير من الرسامين من ابناء الشرق البعيد والشرق الأوسط المقيمين في امريكا واوربا عُرفوا بتنظيم معارض حديثة فردية ومشتركة دورية لأعمالهم التي طورت فنون المنمنم والسرديات والملاحم واضافوا اليها اضافات اسلوبيه كل حسب منهجه ، ليعكسوا علاقة الفنون التصويرية الشرقية القديمة بأساليبهم الحديثة كفنانين متعددي الثقافات وهم يقدمون للمجتمعات الحديثة نماذج مما تعكسه جذور هويتهم الثقافية وموضوعاتها وطبيعتها . وحيث يبتكر الفنان عبد الرزاق ياسر اسلوبه الحديث الخاص بسرديات شعب بلاد الرافدين ، وهو فنان عراقي مكرّس منذ عقود ، فأنه على هذا الجانب من العالم يمثل في حضوره كيف تنعكس جذوره الثقافية وامكانياته وحرفيته لتصوير تلك السرديات الرافدينية الحزينة في سياق ملحمي بصري حداثي خاص به ، وبتجليات الدورات الزمنية الصعبة والمأساوية التي مر بها الشعب العراقي . اننا نرى في لوحاته البانورامية الكبيرة كيف صورابعادها الفنية والأنسانية بتميز اسلوبي خاص يقف بين عشرات الفنانين العالميين المعروفين في العالم اليوم من ثقافات شرقية متعددة امثال عمران قريشي وشهزيا سكندر و حمرا عباس ، ورشاد الأكبروف ، وهليل ألتنديري ، ودانا عورتاني ، وفريدون أفينيو ، وكنان ، ونورعلي شاقاني ، وكانسو شاكار ، وهيف كهرمان ، ، ونليما شيخ ، وشاهبور بويان ، وشاهزية سيكندر ، وسايرا واسي. واخرون.
إبحار لانهائي
لااستطيع ان اعزل عمل الفنان عن الفنان ذاته . وكلما تأملت صورة الرسام عبد الرزاق ياسر قرب لوحاته الملحمية الكبيرة اواثناء تنفيذها عرفت كيف تتفجر طاقة الجذب لشحنات من العاطفة والسكون والصمت على ملامحه نحو ما يرسمه اجزاءا وموضوعات من شهادته على احوال العراقيين خلال الحروب او بعدها تحت وطأة الأرتجال السياسي وارتجالات القرارات التي عرضت المجتمعات المستقرة الى هزات واكراهات وخيارات صعبة ان في الجنوب وفي الأهوار وفي الشمال والوسط ضمن فوضى الأكراهات العجيبة.
ثمة عواصف من عدم الأستقرار تفضي الى تبدد عجيب لروح الأنسان . ذلك ماتقوله لوحاته التي تأخذ حرارتها ودفقها من الناس ومن الروح الشعبي وفوضى القرارات التي ادت الى تهجير سكان المدن الحدودية وسكان الأهوار خلال فترة الحروب العراقية الثنائية المتعددة . هو الرسام ذاته مثل شاعر يقرأ ابياتا من الدارمي او يغنيها وهو يرسم "نبحر نهار وليل / لاني ويه جاري الماي/ ولا اني بالكاع " لوحة من التيه الشعبي العجيب مثل قيامة الضياع الأرضي، حيث تتداخل التفاصيل لمئات الزوارق الخشبية " المشحوف – المشاحيف" لرجال الهور ، والطير الداجن ، والناس والملابس والشحوب الذي يقتل الوجوه الصامته ، حيث تتشتت الرؤية ليرسم مايقوله قلبه عن درامية الحدث الفاجع " تهجير سكان الهور" لتتحول تلك المساحات المائية الى يباس يُسمّي الأرض العطشى "ساحاتٍ للمعارك" فيما الضحية هم مئآت الألاف من السكان القدماء بكل سمات السومريين الأوائل وموجات من انواع الأسماك والطيور المهاجرة التي عرفها العراق طوال قرون ومخلوقات من الشركاء من انواع الحيوان والأغنام والطيور، ترميهم الأقدار على طريق الشتات والتيه ايضا.
منفيستو بصري مضاد
اتساءل كيف حشد الرسام كل تلك التفاصيل الدرامية لتتحول لوحته الى تكثيف لتراجيديا وجودنا نحن ، وليس فقط وجود اؤلئك الذن ورثوا حياة الهور المائي لأجيال متعاقبة . كل لوحة من لوحات عبد الرزاق ياسر هي منفيستو بصري مضاد صارخ ، وهو يرسم كل تلك التفاصيل بروح المنمنم وبروح الرسم الملحمي مع كل عناصر الأختصار والتكثيف والأجتزاء والحذف والتكرار. انه يمنحنا من خلال الحد الأدنى في تجسيداته ،كل مخيال الرسام من تفاصيل غير مرئية ، وتبدو مثل رؤيا سحرية نادرة للتيه والشتات على ذات الأرض التي تنتمي لؤلئك الذين تم حذفهم من حدود المكان والزمان كما ارادت اللوحة ان تروي تراجيديا الأرض والحيوان والأنسان .
اذا كان المنجز البصري هو الفنان ذاته ، فأن حزن الرسام في تجربة عبد الرزاق ياسر هو تراجيدية لوحاته المليئة بأحالات الفجيعة من خلال البنى والأشكال والتصغير والتكرارحيث تتجسد المعاناة الأنسانية في هجرات لانهائية وتهجير امام سطوة الحروب والقرارات الرسمية التي حولت الوجوه في لوحات الفنان البانورامية التي تمثل العطش اللانهائي مثلما تمثل الشحوب والأحباط والعجز المفروض بقوة السلطة وقوة السلاح على وجوه سكان الأرض وسكان اللوحة . ان سلام السمكة تحت تيارات مياه الهور هو سلام لاتقلقه الا شبكة الصياد وتلك ضرورة وجدلية حياة تتطلبها ديمومة حياة الهور وسكانه. وان سلام سكان الهور لايهدده سوى الحروب العاصفة وسلطة التهجير وتعميم التهم والشك القاتل بالمواطن والأنسان الذي سكن المياه واستوطن جزرها الشحيحة من اول الحياة في بلاد النهرين وكل ذلك يلهم الرسم معانيه التراجيدية.
لوحات تسرد اسرارها
" القطار الصاعد والنازل" هي لوحة لايكفي فيها التصغيرلأحتواء حركة ابطالها او الناس التي فيها ، تلك الحكاية التي شهد فصولها الرسام في صباه وهو ابن مدينة السماوة ، فهي حكاية تراجيدية من حكايا التاريخ العراقي الفاجع ، حيث تختصرحكاية قطار الموت الذي حمل المئات من العراقيين الموقوفين التي تعددت رواية فصولها على لسان الكثيرين . ولكن العملية تلك عندما قررت السلطة الحاكمة يومذاك والحاكم العسكري ارسال كل الموقوفين الذين ضجت بهم السجون و حشرهم دون رحمة او مياه وطعام في عربات القطار النازل الى سجن السلمان وهو سجن رهيب يقع على اطراف صحراء مدينة السماوة . كانت السلطة يومذاك تتوقع ان يموت غالبية هؤلاء الموقوفين في القطار خلال الطريق الطويل نزولا نحو الجنوب تحت وطأة حرارة شهر تموز .. ولكن ذلك لم يتحقق حيث يروي الرسام كيف شهد في صباه ذلك القطار وهو يتوقف في محطة مدينة السماوة حيث تدخل الخيرون من اهل المدينة وشرفائها لأنقاذ هؤلاء الوطنيين من الموت المحقق وقاموا بأنزالهم من " قطار الموت" ووفروا لهم متطلبات حياتهم وحاجاتهم وهو موقف جعل ذاكرة الرسام تحتشد بأنسانية البشر وذكرياتهم وبطولتهم من اجل الآخرين . وكنت اصغي للرسام في سردية ذاكرة الطفولة والصبا حيث اراقَ كل تلك التفاصيل المتداخلة بين مبنى محطة القطار المتواضعة وجمهرة المنقذين والنساء والرجال في بنية من التكوين البصري السحري .
انها ملحمة ارضية ابتكرها الآخرون من الناس لتجسيد معنى الحرية حيث اختار الرسام بعد حوالي ستين عاما من مأساة " القطار الصاعد والنازل" بصفتها ملحمة شعبية سميت في حينها " انتفاضة السماوة الصامتة " لتكون لوحة الحياة وكسر كل احكامات الموت من اجل تقديس البقاء . ان نظرة الرسام الى الكائنات والأشياء انعكست في اللوحة كمن يمثل الناس بأسمائهم وادوارهم وكيف وضع تلك التراتبية الرمزية في زحمة تفاصيل اللوحة لكي نستغرق ونحن نتأمل لوحته لأكتشاف ماورائية الرسم وماورائية لوحته . حاولت اللوحة ان تقول ان الحياة زاخرة في تلك اللحظة برغم قدرية الحدث بفضاعتها لكنها تتحول في اللوحة الى خزين من مرموزات الأمل بالحياة وتعبيرية بناء اللوحة الدرامية العجيبة . لوحة قطار الموت الصاعد والنازل اختبار لحرفية الرسام ليرمي كل خزينه اللوني معتقدا انه دون ذلك سيكون تجسيد ذاكرة طفولته اقل بريقا واقل قدرة على الشهادة ليعطي في تلك اللحظة آخر لمسة لون في ريشته .
وخلال تأمل اللوحات البانورامية الأخرى، تندس بهدوء اسود لوحة " عيشة الخوف " حيث تتلاصق الأجساد مرعوبة في غرفة العائلة وتزدحم رؤوس الجواميس العائمة في اصغر بقعة خلف كوخ العائلة العائم مثل قطعة تائهة في زمن مرعب من التهديد والوحدة والأسى والخوف .ووسط كل ذلك الأحتشاد في المعنى الباهر الذي يجمع مرة و يشتت حدث اللوحة الموحي بالرعب وتهديد ادوات الفناء وكأن اللوحة تروي اسرارها حيث يتعرض مخيال الرسام لهزات مكررة مثل موجات الخوف المتكررة في الأصوات واطلاقات النار الطائشة وحيرة الأنسان وزحمة اصوات الضجيج وحركة المخلوقات الى درجة افتقاد الفراغ في تكرار مأساوي عفوي الى وجود تعبيري مؤثر ونافذ ومحتشد بالأشكال التعبيرية الناطقة .ويبدو الرسام في سلسلة لوحاته التراجيدية البانورامية انه لايرتجل حدثا مرويا فقط بل انه يزيد ويحذف في سرديته البصرية وكأنه شاهد حي لتلك الرواية التراجيدية التي يريد تحويلها الى مادة جمالية بكل طاقة البناء التجريدي المكثف والى مادة جمالية برغم مأساوية المشهد الملحمي الواسع المثير. ان الرسام في ملحمياته لايبالغ لأن لديه تفاصيل المأساة بصفته شاهدا او رائيا او محررا لمخياله السجين الذي اثرته الروايات والأخبار وموصوفات الأحداث الدرامية التي تحاول ان تجعل المشهد مجرد حدث مأساوي ولكن الرسام لايبالغ وهو يحاول ان يقرّب صورة الماساة من خلال الأحساس بالخطر والوجوه الحزينة والنساء الكئيبات والأطفال المرعوبين حيث يحاول الرسام ان يؤسطر لوحته ونفائسها ليكرس احساسنا بسيرة اللوحة عبر تشتيت انتباهنا وكأنا نعيش ضغط مشهد الخوف بكل تلك النفائس التعبيرية الصامتة لتوحي لوحته هذه بالصمت والرعب والرفض برغم ملامح الأستسلام ازاء القوة الغاشمة التي تؤطر مضمون العمل الفني!
في سؤال الموقف والوعي عند الفنان حيث استعرضُ عددا من اللوحات البانورامية للرسام عبد الرزاق ياسر مثل " سمجة وشحيح الماي وبظهري فالة ، و عيون معصوبة بنور الظلام ، وبيوت من صفيح اليورانيوم " حيث تتدفق حواس الرسام بتعبير انتمائه الى ارض وهوية ثقافية وانسانية ليعلن بتلك العناوين موقفه من مؤازرة روح البقاء بينما يواجه الأنسان قوة الفناء بتعدد اشكالها ليجد منفذا للحياة حتى وان في تفاصيل لوحة فنية . فهو لايحيّد حواسه ومشاعره بل انه يحول كل عواطفه وانفعالاته الى اشكال راسخة من الصرامة والقوة ليس بهدف اعلان مباشر لمضامين لوحاته بل ليبدو دم اللوحة وكأنه يسيل خارج حدودها وان الفراغ والبياض انما هو كفن الفناء واعلان عن نقاء النهايات التراجيدية والمأساوية لأجزاء سردية الرسام البصرية .
ثوابت وحرية الرسام
في تأمل لوحات الرسام عبد الرزاق ياسر ثمة عاطفة لونية هي مزيج الحواس والمواد وروح الحالة واشكالها التعبيرية . وتظهر جلية ثوابت الرسام في الأسلوب والتقنية الحرفية والرؤية العميقة ، غير انه يحدث بشكل متواتر تكريس ادواته الفنية من خلال تأثير العمل والحركة وبنية التفاصيل وفي التصغير والتكرار في حالة من التذكر والتطوير في اشارة الى اختلاف موقفه من السائد واضافاته لمخلوقات مستلة من موضوعات لوحاته المأساوية وقد غدت مشاهد ضياع وعدم مؤطرة بعناية فنية درامية وتراجيدية رفيعة فنيا وموضوعيا .
عبد الرزاق ياسر رسام لايمحو مرسوماته وتكويناته بل انه يثري مشاهداتنا البصرية بأستدراج بصري لمكونات تخطيطاته ولوحاته الى ماوراء النظر ، لكنه لا يتعمّد الغموض بل يكاشفنا بأسرار لوحاته غير المرئية من الخصوصية الفنية الى خصوصية الموضوعات التراجيدية الى خصوصية النظر حيث نتحول من قراء سرديته البصرية الى مشاركين فيها بأدوارنا في تلك التراجيديا البصرية الملحمية العجيبة " ذئاب بشرية " نموذجا حيث تسرد حركية المأساة التي تمثلها بطلة اللوحة ، الطفلة " عبير" في ربيعها الرابع عشر حيث تشهد مأساة عائلتها امام عينيها وكيف يقتلهم جند المحتل في مدينة المحمودية مستهدفين الأعتداء فيما بعد على نقاء وبراءة الصبية ثم يتم قتلها . وبالرغم من علم الرسام ان جنود هذه الفعلة الخمسة يقضون فترات سجنهم التي بلغت احكامها بين مائة وعشر سنوات وتسعة وتسعين عاما ، لكن الرسام لايجد في ذلك حق قيم الحياة والأنسان في تلك الأرض العراقية ، لذلك يشتغل على تصوير تلك التداعيات المليئة بالرعب والوحشية عندما نفذ الوحوش الخمسة فعلتهم . اللوحة تروي وجع جمر مأساة الرسام وهو يتنقل بين الضحايا واغطيتهم الريفية وسجاجيد الأرض التي رمتهم صدفة الرصاصة فوقها وتلك التي اختفت خلف مكونات شعبية و غرائبية لتحكي كل تفصيل مأساوي في ايحاءات العنوان المناويء لكل قوة غاشمة او محتلة او مسلحة وظالمة، بينما تكمل سردية اللوحة والأشكال وفوضى المكان وانتقاء الألوان العميقة والألوان الشاحبة فصلا من المأساة النهرينية عبر بانورامية اللوحة وتكثيفها ايضا.
الرسام وضحكته المبتسرة
انني اتساءل ايها الرسام الحزين عبد الرزاق ياسر ، لمَ تختصر ابتسامتك ، انك تشعرني منذ شهاداتك الأولى على المأساة وانت تفتقد الضحك العادي عدا عن ابتسامة مختصرة على سمتك وكأنك تقوم بواجب ابوّتِك او واجب الدراسة مع تلاميذك او اختصار بهجة المنزل في ابتسامة بسيطة وحميمة تمنحها لعائلك ، وارى ان حزنك العميق وخيباتك وجروحك هي اللوحة التي لم تُرسم بعدْ ، بل انك رسمت لوحات شهادتك على تراجيديا الناس الذين عرفتهم وشممت رائحة السمك حين تنام مياه الهور في الأماسي وكم اكتفيتَ بلقمة مختصرة من خبز السياح في لحظات هاربة من القدرية وقد جمعتك بمن يلهمك ويمنحك عاطفة الأقتراب والحنو والرسم الباذخ المعنى في لوحات فسيحة بتفاصيلها الدقيقة ولكنها ضيقة بسكانها في ممرات فرص الحياة .
في اللوحات الغنية بالتفاصيل " رأس يبحث عن كتف و اختلطت عظام الفارس بعظام حصانه ، الرحيل الى الأسفلت و الحرب الزاهية " كل لوحة هي حالة حدثها او مضمونها او ايحاءاتها ، حيث لاتحييد في مشاعر الرسام وحواسه ، لكنه في " اختلاط عظام الفارس بعظام حصانه" مثال على نوع الفناء الذي يتعرض له الأنسان حتى وهو يستشهد او يموت موتا عاديا ليبلغ لحظة الصمت اللانهائي متماهيا في المطلق بحيث تمتزج حيوات متعددة في حياته التي استلبتها المأساة الواسعة التي شملت كل شيء .
الشعرية في لوحات الرسام عبد الرزاق ياسر شعرية حزينة لكنها ليست شعرية بَصَريّة رثائية بل هي امتزاج روح الحالة بألوانها واشكالها التعبيرية وحواس ومشاعر الرسام لتتحول الى مشهدية بانورامية " الحرب الزاهية" وكأن الرسم موسيقى الحزن وبكاء مكتوم لكل من يبلغ ارضه ثانية لكنه لايجد شيئا .
عملية المرور الى لوحات عبد الرزاق ياسر ترسم حياة سكانها في تيههم وشتاتهم من اراضيهم وبيوتهم واهوارهم ،حيث تختصر لوحة الرسام اكوام الخشب القديم ومجاذيف و "مرادي" دفع الزوارق " واصواف ملونه تشكل بسطا وسجاجيد كثفتها النساء بأشكال وتصميمات تجريدية فطرية تختصر حياة الناس التي غادروها وكانت تفيض سلاما ودفئا واُلفة . وثمة ربطات من القصب التي كان لها ان تصبح في اللوحات نايات تنفخ فيها ريح القرى والبيوت القصبية ، فلا هي اطلقت موسيقاها على ظهر السيارات القديمة في اسفار " الحرب الزاهية" ولاهي رسمت النسيان المستحيل لكل تلك التراجيديا العجيبة في فصولها وصفحاتها التي اشتغل من خلالها الرسام عبد الرزاق ياسر فصول ملاحم الناس الذين عرفهم وتشرب بطعم حياتهم وطعامهم وبكائهم وطقوسهم وازيائهم وسواد اثواب النسوة التي اريد لها ان تمثل المأساة لكنها توزعت بالوانها الداكنة لتستدعي كل شعرية اللون والتكنيك والحرفة الراسخة لترسم صفحات المأساة التي اثمرت ذاكرة فنية باقية في اللوحات الملحمية التراجيدية التي جعلنا الرسام عبد الرحيم ياسر بأزائها ، وسط اناس يتكاثرون في ضياعهم وشتاتهم ولترسم المأساة طريق كثرتهم لتأتي فتبني الحياة التي تضج في كل لوحة من لوحات الرسام الحزين في المرآة لكي يبتكر بسمات الأطفال والنساء وهم يمنحون سيرة " البقاء" انساقا درامية تعبيرية في لوحات تثري ذاكراتنا واحلامنا القادمة .