الأهوار في كتاب نداء الاستغاثة لنعيم عبد مهلهل.. مسافر زاده القصب والذكريات والدمعة
الزمان - دوسلدورف
آخر كتب الروائي العراقي والمهتم بسحر الاساطير والانثروبولوجيا ( نعيم عبد مهلهل ) هو كتابه الجديد ( مسافرٌ زاده القصب ) والصادر عن دار نينوى للطباعة والتوزيع والنشر في دمشق ، وهو الكتاب الثاني عشر الذي اصدره نعيم عبد مهلهل عن هذا العالم ، ويكاد يكون اكثر كاتب عراقي من كتب عن الاهوار التي تطلق اليوم اخر نداءات الحياة والاستغاثة بعد ان جفت اراضيها ومات القصب والسمك والجواميس وانقطعت هجرة الطيور وبدأت هجرة جماعية لأهل الاهوار صوب المدن الحضرية في رحلة الجوع والأمل ومساطر عمال الطين.
يوميات القرية
من عمق المكان وتواريخه السومرية وعبر ( ثمانية وخمسون ) حكاية تتنوع فيها الاشتغالات والرصد ليوميات القرية التي عمل فيها المؤلف معلما في مدرستها الابتدائية. وطوال هذه السنوات يقرأ الكاتب المكان ويصل معه الى حقيقة أنها منحة الله لهذه الارض، والغريب انها لم تستفد لحد هذه اللحظة من تلك النعمة. وربما هذه الثروات هي قدرية المكان والتأريخ لهذه الارض لتتميز عن غيرها، ولو كانت هذه الاماكن وبتلك المميزات ونعم في المانيا مثلا لتحولت على جنائن ساحرة، لكن الانظمة ومزاج الملوك والمستعمر والتخلف الذي ابقاه الحاكم والمستعمر قائما في ربوع هذه الاماكن حتى يعزلها ويطفئ شموع الطموح في ذاكرة اهلها، ولكنها تدرك قيمة خيراتها وثرواتها لهذا فهي تثور كل يوم من اجل ان تمتلك خيراتها حتى تطور بنيتها الخدمية والعمرانية. فأنا أظن ان مياه الاهوار وما تحتها بالإضافة الى الثروة السمكية والسياحية الاثارية الهائلة فأن في باطنها خزينا هائلا من البترول والمعادن الاخرى.
لهذا يكتب مهلهل وقائع تلك الايام ومتغيرات تواريخها وبقاء احلام الناس هناك قائمة على هاجس محبة المكان وموجوداته بالرغم من تلك الظروف الصعبة التي يمرون بها ، ولكن كما في حكايات كتاب مهلهل مسافر زاده الخيال ،لمجرد ان يقود المعيدي قطيع جواميسه الى قيلولة الماء والقصب وسط الهور فأنه ينسى كل معاناة المكان وامراضه وهبات عجاجته التي قد تنقل بيوتهم القصبية من مكان الى مكان اخر فيضطر ليبني بيتا اخر.الحكايات التي احتفى بها الكتاب تنوعات لغوية وجمالية قصصية تشعرك بأن المكان ليس كما كان يتداول عنه خال من رؤى الحضارة والثقافات وقائم فقط على طقوس حياتية ومعيشية ثابتة مثل الرعي وانتاج القيمر والحليب وبعض الصناعات البدائية ، أنما رصد مهلهل لتواريخ المكان وبيئته ويومياته يجعلك تدرك تماما أن المكان كما يقول الكاتب مهلهل هو الحديث عن الميثولوجيا الرافدينية بالنسبة لكاتب هو الحديث عن نفسي وذاتي وروحي والمفردات الثلاثة هي كياني المتكون على شكل جسد فيه ذاكرة وعقل واحاول من خلال هذا الذاكرة أن أعيش أحلامي وأنتج رؤى الكاتب فيما أنا أمارسه وأتخصص فيه الرواية، الشعر، المقالة والنقد، وحتما فأن ميثولوجيا الأهوار هي واحدة من المنابع الاصيلة والاولى لميثولوجيا بلاد الرافدين، وحتما فإن اول اساطير الخليقة مثل الطوفان واسطورة حلم كوديا وأسطورة آدابا صنعها خيال المكان الاهواري وبيئته عندما كانت هذه الاهوار موطنا للسلالات الاولى التي نشأت قبل التاريخ ولتصنع امجاد ملوك المسلات والاساطير. والذي يميزها انها امكنة خالدة صنعت الخلود لأبنائها وقرب ضفافها ولد الانبياء والمفكرون والجنود الذين اوصلوا مجد سومر الى ارمينيا والهند وعُمان وجبال طوروس.كل تلك التواريخ والاخيلة سيجدها القارئ موجودة بين متون القصص التي ستعيد اليه كل المشاهد المتخيلة عن عالم يقرأ عنه في الصحف وتقارير التلفاز انه معرض للموت والجفاف والتهجير .
متون القصص التي دونت بأقلام من القصب وحبر جف الآن بسبب جفاف الاهوار ولم تبق سوى حكايات هذا الكتاب وهي تطلق نداءات استغاثة من اجل ان لايموت المكان وتعاد اليه بعض مآسي ازمنته القديمة ، لهذا تظهر بين جنبات الحكايات نداءات وتفاصيل احلام بعيدة شكلت فيها الاهوار نموذجا فريدا لانثروبوجيا الامكنة وطوبوغرافيتها المختلفة وكانت مزارا دائما للوافد الاجنبي (الرحالة أو المستشرق) هو من انصف المكان وتاريخه، لقد وجد هؤلاء الرحالة والدارسون في عالم الاهوار عالما للبدء التاريخي ومحطة للطبيعة النقية التي تتميز بسحرها وجمالها وروعة طبائع اهلها عن كل بقاع العالم كما انها الموطن الاول للأنبياء الاوائل، لهذا احبوا المكان وعايشوه ودرسوه بعمق وعناية وتركوا لنا ارثا رائعا من الكتب والصور النادرة التي تؤرشف حياتهم في بدايات القرن الماضي وحتى زمن الحرب مع ايران. واهم من كتب في هذا هو ولفريد ثيسيغر في كتابه "المعدان" وماكسويل كالفن في كتابه "قصبة في مهب الريح" وكذلك هناك كتابات رائعة ومهمة للمستشرقة البريطانية الليدي دورورا التي عايشت طائفة الصابئة المندائيين في مناطق سكناهم في الاهوار وكتبت عن حياتهم وطقوسهم الدينية في تلك الاماكن. وغير هؤلاء كتب الكثير من ضباط الحملات العسكرية الانكليزية وبعض الباحثين .
قصص نعيم عبد مهلهل المكتوبة بحزن وذكرى وتحفيز لنجدة المكان يتحدث عن لصحيفة الزمان والدمعة تجلس عند ارائك اجفانه ، لأن مجمل القصص تتحدث عن ماض غادره الى مهجره وتمناه ان يبقى جهة لذكرياته ورواياته وقصصه ، لهذا فأن هذه الحكايات ، في هذا الكتاب ( مسافرٌ زاده القصب ) هو قاموس لمتداول يومي لحياة عراقية اصيلة ينبغي ان لا تصمت ازائها الدولة وتجعلها تموت وتتلاشى وتنقرض وتصبح كما ارث سومر مادة للمنقبين وعلماء الاثار والاجتماع . فالمعدان ( عرب الاهوار ) هم السكنة الازليين والمادة الجمالية والروحية والتاريخية لقصص هذا الكتاب ، الذي يقول عنه المؤلف انه تسجيل سحري لوقائع لا أتمنى له ان يموت عطشا وهجرات وتذهب رقاب دوابه الى الموت فتكا من العطش او سكاكين القصابين .
وحين يتصفح مهلهل كتابه يطلق حسرته ويقول : (( كان هذه الطبيعة منحة الله لهذه الارض، والغريب انها لم تستفد لحد هذه اللحظة من تلك النعمة.
وربما هذه الثروات هي قدرية المكان والتأريخ لهذه الارض لتتميز عن غيرها، ولو كانت هذه الاماكن وبتلك المميزات ونعم في المانيا مثلا لتحولت على جنائن ساحرة، لكن الانظمة ومزاج الملوك والمستعمر والتخلف الذي ابقاه الحاكم والمستعمر قائما في ربوع هذه الاماكن حتى يعزلها ويطفئ شموع الطموح في ذاكرة اهلها، ولكنها تدرك قيمة خيراتها وثرواتها لهذا فهي تثور كل يوم من اجل ان تمتلك خيراتها حتى تطور بنيتها الخدمية والعمرانية. فأنا أظن ان مياه الاهوار وما تحتها بالإضافة الى الثروة السمكية والسياحية الاثارية الهائلة فأن في باطنها خزينا هائلا من البترول والمعادن الاخرى.))
كل هذا يختفي ان استمر هذا الحال ، وسيبقى المعيدي مثل اي مسافر هموم زاده القصب وسيندثر العرق الاحيائي والتاريخي والأنثروبولوجي لهذا الانسان حين تنصهر اجياله بالمجتمعات الحضرية التي هاجر اليها ،وتفقد الحضارة العراقية مشهدا جميلا في توعها البيئي والاجتماعي والاقتصادي وان بقي النفط مرتفعا بسعره ستحاول الدولة ان تعين هؤلاء برواتب الاعانة الاجتماعية البائسة وستستورد القيمر والحليب والحصران من الدول التي كان يأتي منها الماء ليصنع بلاد كانت تسمى في زمن الاساطير والتواريخ القديمة ميزوبوتاميا.
يتحدث نعيم عبد مهلهل عن حكاياته الثمانية والخمسين ( مسار زادهُ القصب ) والمتوفرة الآن في مكتبات شارع المتنبي ومكتبات مدينته الناصرية ، ويصفها بأن رصد يومي لمجمل فعاليات اليوم الحياتي لهؤلاء الناس ،تقاليدهم وعافيتهم واغانيهم واساطيرهم ورؤيتهم للحياة وعلاقتهم بتجانيد الحروب ودوابهم وما ينتجون .
عالم تتنوع فيه الاحداث مع كل قصة ،والكتاب هو الجزء الثاني من سلسلة ل500 قصة كتبها نعيم عبد مهلهل لتكون سفرا وقاموسا وارشفة وارخنة لحياة بدأت تقترب منها كثيرا اصابع الموت وتطوق رقبتها لتمنع عنها الحياة .
استعادة الحياة
وفي النهاية ترى (الزمان) أن حكايات مهلهل هي حقا نداء استغاثة من اجل المكان حتى تنتبه له الدولة اولا ومن ثم مبدعي هذا البلاد ليطالبون باستعادة الحياة وقد اعتبرت اليونسكو والامم المتحدة ان هذا المكان ارثا حضاريا وبيئيا ينبغي الحفاظ عليه ، ومتى قرأت الحكايات ستمنحك اخيلة القصص كما كبيرا من الحزن والحسرة على بيئة جميلة تموت ولا احد يلتفت اليها .
ويبقى صوت مؤلف الكتاب يسجل وقائع دمعته في جدلية ان الحكايات هي صرخة مستغيث بالرغم من انها تؤرشف سنوات الذكرى في مكان كان فيه معلما وقد اعتمد في مرجعية قراءة المكان والكتابة عنها كقصة ورواية عبر ما يقوله الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار يقول : الزمان هي حضور الذاكرة والمكان هو الكرسي الذي تجلس عليه هذه الذاكرة . أنظر إلى هذه المقولة كلما أبدأ بالكتابة عن الاهوار وحكاياتها التي لا تنتهِ .
فالزمان هو بدء تتخيله وتعود إليه وما يتبقى يكون إنجازه مناطا بالمكان الذي كان يحتفي بموجودات ارسلها الله الى المكان يوم انزل ادم قرب اديم الحلم والماء وخواطر التصاهر وشجرته التي استظل بها قريبة جدا من قرى الاهوار . أجد في الأمكنة مساحة للشروع بتخيل ما لم يكن موجودا في سجل مشاريعي . رؤية غابات القصب وزقورة أور تحوم فوقها الطائرات مكان يعود بك إلى أزمنة تستعاد بهاجس ينمو بانفعال ويهدأ على الورقة . إن سحر ما تمنحه الأمكنة يجعلنا نستعيد الأزمنة بيسر أي كانت المسافة والمانع لهذا فانا أرى تأثيرهما في نصوصي كبيرا وهما من يصنعان ثيمة النص كما مع حكايات وقصص كتابي الجديد ( مسافرٌ زاده ُ الخيال).