النهر جسد روحه الماء، والماء لا يعرف اتجاه سيره من دون مجرى النهر، بل هو يسير من غير هدى لولا النهر، ودجلة والفرات، ليسا نهرين من الأنهار التي تجري هنا أو هناك في أرجاء العالم الكبير، لا، إنهما نهران أسطوريّان وحقيقيان في الوقت نفسه، لا يعيش العراق من دونهما ولا يعيشان هما من دون العراق، لهما فضل ارتواء (42) مليون عراقي، وإرواء أكثر من (438000) كيلومترا مربعا هي مساحة العرق، ينبعان من جبال طوروس، جنوب شرق الأناضول في تركيا، ويمتدان على طول العراق بعد قدومهما المبارك من تركيا وسوريا، ويلتقيان في القرنة ثم يصبّان في الخليج العربي، يخضرُّ العراق بهما، ومن يديهما يشرب فيرتوي، وعندما يقل الماء فيهما يعطش، وتتوقف مشاريع الماء، وتتوقف المحطات الكهرومائية، وتنفق الأسماك، وتموت الأهوار، وتتوقف المراكب والزوارق والمشاحيف، وتعطش معه الحقول والمزارع والبساتين، وتعطش الحيوانات والطيور، وتتيبس الأرض وتتشقَّق، وتصبح السباحة حلما من أحلام الصغار والكبار.
جاء في كتاب الصابئة المندائيين المقدس (كنزا ربا) عن الفرات: ((كنتُ صغيرا أنا بين الملائكة الآثاريين، وطفلا بين النورانيين، ولكني أصبحتُ عظيما لأني أشرب من ثغر الفرات))، وهذا الكلام المضمخ بالشاعرية والمكتنز بحرارة العاطفة، يمكن نشره على مساحة أوسع ليشمل دجلة والفرات، وليكون على لسان العراق العظيم وبالصورة الآتية: أصبحتُ عظيما لأني أشرب من ثغرَي دجلة الفرات.
ومن أجل أن يكون الماء حاضرا ومصانا ومضمونا وناميا في دجلة والفرات، لا بد من أن تمتد السدود الوطنية على طوليهما، وأن تتسع الخزانات المائية لحفظ كل ما فاض من مائهما، وأن تكون روافدهما داخل العراق تحت الرعاية المركزة، وأن نحافظ على نظافتهما فلا نسمح بأن يكونا مجاري لتصريف مياه الصرف الصحي، وأن نضمن لهما حصصا مجزية من المياه من المنابع الأصلية لهما عبر التفاوض المباشر المستند إلى القانون الدولي وإلى حسن علاقات الجوار وعمق المصالح المشتركة مع دول المنبع والمجرى، وأن نحبهما كما نحب أي حبيب، وأن نكتب في حبهما الأشعار ونغني لهما، وأن نحفظهما في صدورنا مثل أناشيد خالدة.