الطبيب علي كمال بين الأدب وعلم النفس: فلسطين هي أمي والعراق خالتي التي ربتني
فاروق سلوم
كان مجال الطب النفسي في العراق ميدانا جدليا تبعا لتقبل المجتمع او رفضه، وكانت هناك ثلاثة اسماء مهمة لأطباء متخصصين بعلم النفس وامراضها ، يرتبط وجودهم بتأسيس وعي مبكرومدرسة علاج لأعراض النفس الأنسانية في العراق .
اولهم الطبيب النمساوي هانز هوف "1897 - 1969 والثاني هو الدكتور جاك عبود" 1908-1981 والثالث هو الدكتور علي كمال " 1918-1996. واعقبتهم لاحقا اجيال من الأطباء والمتخصصين . هانز هوف طبيب نمساوي واحد تلاميذ عالم النفس سيجموند فرويد . هاجر من النمسا الى العراق عام 1938 بعد احتلال المانيا للنمسا وعمل استاذا في الكلية الطبية الملكية ببغداد وامضى سنوات طويلة في بغداد كطبيب متخصص كلف بعلاج العسكريين الأجانب خلال فترة الأنتداب البريطاني . وجاك عبود ، وهو طبيب يهودي عراقي شهير من اوائل الدارسين في الكلية الطبية الملكية 1927وجامعة لندن ، وهو من اوائل الأطباء العراقيين الذي تخصص بعلاج الأمراض النفسية والعصبية ، عمل مساعدا بعد تخرجه مع هانز هوف ثم اسس اول مستشفى للعلاج النفسي والعصبي في بغداد ، ثم غادر عام 1970 الى لندن ليواصل عمله هناك لغاية 1980.
اما الدكتور العربي الفلسطيني العراقي علي كمال " 1918- 1996 فقد تخرج في الجامعة الأمريكية ببيروت 1940 وحصل على شهادة الدكتوراه بعلم النفس ثم درس في لندن وحصل على دبلوم تخصصي في علاج الأمراض النفسية والعصبية 1944 وعمل في بريطانيا لغاية عام 1951 حيث دعي للعمل ببغداد وتم تعيينه بتوصية من تحسين قدري رئيس تشريفات القصر الملكي في الكلية الطبية الملكية.
وتشير سيرته في بغداد طوال اكثر من خمسة وثلاثين عاما الى دور كبير في استكمال الخطوات التي وضعها من سبقوه في مجال العلاج النفسي وانشاء المؤسسات وتحفيز الطلاب على اختيار الدراسة في هذا المجال وحث الدولة العراقية على ارسال الخريجين للتخصص في الجامعات العالمية في مجال علاج امراض النفس . يقول د. عامر هشام الصفار المقيم في لندن عنه:
"عرفته طبيبا أستاذا محبا لطلبته في كلية الطب ببغداد الستينات والسبعينات.. ومحبا لمرضاه في تلكم الفترة الزمنية وما بعدها... كان الدكتور علي كمال متميزا في أسلوب محاضراته وتبسيط مادتها العلمية للطلبة.. كما كان حريصا على التواصل مع الجميع من خلال السؤال والجواب..ولن يترك سائلا دون أن يجيبه.. وقد يطيل في التفسير مجتهدا باحثا عن السبب والعلّة.. فاتحا الأبواب أمام أحتمالات أخرى في تشخيص المرض.. وهكذا كان ديدنه مع مرضاه، وهم بالآلاف في عيادته للطب النفسي ببغداد..
كما عرفته كاتبا لا يشّق له غبار.. فكتب في الطب النفسي كتبا مهمة بلغة عربية رشيقة سلسة مفهومة.. وكان الراحل يذكّر طلبته دائما بأن كل أنسان هو كيان قائم بذاته، وأن فهم النفس الأنسانية عملية ليست سهلة أبدا علي كمال بين العلم والأدب
علي كمال ابن مدينة " عنبتا - الواقعة في ضواحي جنين ابن بيت علمي مثقف اثر في شخصيته واصبحت اهتماماته بالأدب مبكرة وكان اثناء دراسته المرحلة الثانوية في القدس قد تعرف الى جبرا ابراهيم جبرا وجمعتهما منذ سنوات الصبا الأفكار والقراءات والأهتمام باللغات والترجمات والكتابة .
كتب علي كمال في البداية في مجال الأدب بأسماء وهمية ، ثم كتب بأسمه الصريح وعرف بمعارضته جبران خليل جبران في مجلة " الأمالي"، واختلف على منهجيته وكتاباته التي اعتبرها غير عميقة ومتأثرة بما هو سائد في المهجر يومها، ثم وهو في الثالثة والعشرين كشف اسرار ترجمات عباس محمود العقاد في مجلة "الرسالة" الأدبية الشهيرة ووجد ان ترجمات العقاد عن اللغات الأخرى غير دقيقة ثم التقى بالعقاد في القاهرة وربطتهما علاقة بين جيلين بعد اختلاف ادبي ، كما تعرف الى توفيق الحكيم ويذكر د. علي كمال عن تلك المقابلة" ان الحكيم طلب لي فنجان قهوة على حسابه وتلك من النوادر ان تحصل لأي كان لما عرف عنه من البخل" . ويقول انه معجب بطه حسين كأسلوب كتابه لكن طه حسين يظن انه يمسك الشمس بيده ولكنه حين يفتح يده لن يجد شيئا وبرغم ذلك كنت احب اسلوبه .
عندما حصل علي كمال على شهادة الدكتوراه من الجامعة الأمريكية ببيروت عام 1944 وجد ان اختصاص علم النفس وعلاج الأمراض العصبية والنفسية هو المنهج الذي يختاره كعمل متخصص ، فيما يشكل الأدب والكتابة والترجمة عناصر متممة لعمله وتجربته العملية والفكرية والثقافية
ويقول د. هشام عامر الصفار عنه ككاتب - كتب الراحل الدكتور علي كمال كتبه باللغة العربية..ذلك كونه كان حريصا على توصيل المعلومة في العلم إلى قارئه بلغته الأم.. اللغة العربية، ليقول أنها يمكن أن تكون لغة العلم إضافة لكونها لغة الأدب، فقد كان الفقيد قارضا للشعر في مراحلعمره المبكرة، كما كانت له مقالاته في شؤون الحياة والسياسة والتي نشر بعضها بأسماء مستعارة بسبب حساسية العمل السياسي العربي في النصف الأول من القرن العشرين. وتراه معبرا خير تعبير عن وجهة نظره في تعريب مصطلحات الطب النفسي حيث يقول في كتابه النفس.."لقد بات من العسير على القاريء إدراك الحدود والمحتويات الكاملة للتعابير المستعملة في علم النفس، حيث وجدت فوضى الأصطلاحات النفسية طريقها إلى اللغة العربية، وما كتب فيها في مواضيع علم النفس والطب النفساني. وقد زاد في تعقيد الأمر أن تراجم مختلفة ومحاولات تعريب متعددة قد تمت. ومع أن بعض المصطلحات المستعملة تفي بالغرض، إلا أنها في مجموعها لم تصل بعد إلى الحد الذي يمكّنها من التعبير بسلاسة عن محتويات هذا الفرع الهام من الطب.
حياته في بغداد
في بغداد عاش د. علي كمال احداث وامسيات الحركة الثقافية العراقية وهو وجبرا ابراهيم جبرا عرفا كثنائي ثقافي مهم ، فشهد ا معا تأسيس جماعة بغداد للفن الحديث وجماعة الوقت الضائع وجماعة الأنطباعيين وحضر معظم الفعاليت الشعرية والموسيقية ومعارض الفن التشكيلي والمعماري ببغداد وتعرف الى السياب والبياتي وبلند الحيدري وحسين مردان وجواد سليم وحافظ الدروبي ورفعت الجادرجي ومجموعة المعماريين العراقيين . وكان مشاركا ومتفاعلا وانتقائيا وخصوصا عندما يتعلق الأمر بمعرفته بالموسيقى الكلاسيكية التي يسمعها وبسبب عشقه لبيتهوفن يقول" انني لااستطيع ان اركز حتى في دراستي الا عندما اسمع الموسيقى" .
تقول د. منى يونس عن دوره في مجال علاج الأمراض النفسية والعصبية" الاستاذ الدكتور علي كمال رحمه الله أحد ابرز رواد الطب النفسي في العراق ومن اوائل من وضعوا اللبنات الاولى لبناء منظومة الصحة النفسية في العراق قادما اليه من عنبتا في فلسطين بعد نكبة 1948 بقليل الى ان تركه عام 1986 في مسيرة علمية حافلة بالعطاء العلمي بشقيه السريري حيث خدم عشرات الالاف من المرضى العراقيين بكل تفاني واخلاص ، وبالجانب التعليمي حيث اشرف على تدريب الطلبة والاطباء حديثي التخرج مشجعا اياهم على الانضمام لهذا الاختصاص الذي لايشهد اقبالا كبيرا . ويعود له الفضل في ارساء نظام الابتعاث الحكومي للاطباء العراقيين من اجل نيل اعلى شهادة الاختصاص والتدريب في المملكة المتحدة واستطاع بمكانته العلمية والاجتماعية المميزة كسب تاييد الدولة في الاهتمام بالطب النفسي حيث اسس الوحدة النفسية في مستشفى اليرموك التعليمي عام 1978 بدعم من الرئاسة العراقية انذاك وكانت تعد وحدة نموذجية من حيث المعمار والتنظيم والتجهيز"
لقد انكب في بغداد الدكتور علي كمال على تأليف اهم مراجع علم النفس وعلاج الأمراض العصبية ، وخلال اربعين عاما طبع اكثر من عشرة مجلدات بأجزاء متعدده شكلت اهم مراجع المكتبة العربية في مجال كتب علم النفس وطبابة الأمراض العصبية .
ومن ابرز مؤلفات الدكتور علي كمال – النفس، انفعالالتها وأمراضها وعلاجها
– النفس والجنس– أبواب العقل الموصدة – باب النوم والاحلام– فصام العقل (الشيزوفرينيا)
– العلاج النفسي قديماً وحديثاً .إضافة إلى عدة أبحاث منشورة في نشرات متخصصة أومجلات ثقافية، أهمها:- المتنبي والنفس (تحليل لشخصية اشاعر المتنبي من خلال شعره)
- مساهمة الحضارة الإسلامية في الطب النفسي – بالاشتراك مع د. وليد سرحان
يقول د عامر هشام الصفار" لقد ألّف أضافة للكتب المهمة كتابا عنونه ب “النفس والجنس” وكتابا بعنوان “فصام العقل -الشيزوفرينيا-” وله كتابه في العلاج النفسي قديما وحديثا….وكتابه حول أبواب العقل الموصدة.. باب النوم والأحلام. أما في مقدمة كتابه الشهير “النفس وأنفعالاتها” فقد مهد له بمقولة للشاعر الأنكليزي تي اس اليوت: كيف أستطيع أن أفسر لكم؟.. ستفهمون الأقل بعد تفسيرها.. كل ما يمكن أن ارجو أفهامه لكم.. هي الحوادث فقط.. وليس الذي حدث.. والناس الذين لم يحدث لهم شيء ابدا.. لا يستطيعون فهم عدم أهمية الحوادث. ثم تساءل الدكتور علي كمال من هو المريض نفسيا؟ من هو المريض عقليا؟ ليختار مدخلا مهما ليعرفنا ماهي الأمراض النفسية؟.. وما مدى أنتشارها؟… ولم تقتصر جهود الراحل د علي كمال على تأليف الكتب وأعطاء المحاضرات على طلبة كلية التربية وكلية الطب بل راح يكتب المقالات والدراسات في الصحف والمجلات العراقية، ويعقد اللقاءات الصحفية والأذاعية ويقدم برنامجا تلفزيزنا اسبوعيا في تلفزيون بغداد ومن مقالاته الشهيرة في المجال الأدب والنفس دراسته المنشورة عن المتنبي والنفس..تحليل لشخصية المتنبي من خلال شعره. وهناك مقالة أخرى منشورة عن مساهمة الحضارة الأسلامية في الطب النفسي".
وللدكتور علي كمال اقوال وعبارات شهيرة ومن تلك الاقوال. عاطفة الحب
لعل من المفارقه ان يقال بان عاطفه الحب يمكن ان تكون مصدر عبث بعقل المحب ، مهما كانت دوافع هذا الحب،غير ان تامل هذه العاطفه وما تقتضيه من صاحبها من تعلق او تكريس ، والتزام ، وتفاني، وتضحيه، تجعل العاطفه هذه ان تاْتي علي حساب العقل والحكمة.
- عاطفه حب النفس (النرجسية)..........
العجب او حب النفس هو شعور يتواجد في الكثيرين من الناس . ووجوده بقدر قليل او معتدل يدل على الثقه بالنفس وتقديرها ، وهو بذلك كما قال الفيلسوف المعاصر هارتمن يمكن ان تكون " فضيله" .. غير انها تصبح في ادنى درجه من سلم الفضيله " عند التمادي في حب النفس الذي يصبح في هذه الحالة من مصادر العبث بالعقل .
الجنس والنفس
عندما بدأت ابحث في علاقة الجنس والنفس ، لم افطن في حينه لما يكتنف البحث في المواضيع الجنسية من محاذير، ذلك أن الأمور الجنسية في الكثير من المجتمعات وكأنها أرض حرام، زرع مجالها بما يشبه الألغام من التزمت والجهل والتحيز وسوء الظن وخطأ الفهم والحساسية والنفاق، وغيرها في المواقف، التي لها ليس فقط أن تعيق البحث العلمي والهادئ في هذه المواضيع، وإنما أيضا أن تواجه الباحث فيها بخطر الانجراف، وكأنه يضع خطاه في الرمال المتحركة فيغرق فيها قبل أن يحس بذلك.
- القلق فضيلة اذا كان طاقة تحفيز للتحدي والعمل والحلم والتأمل والحدس والتوقع السديد
والحق ان الدكتور علي كمال يحمل من الروح العراقية الكثيرفي ذاكرته ولهجته عند الحديث والكثير من التعلق بوطنه فلسطين ومن طاقة الدفاع عن هويته القومية والثقافية بأتحاد العقل العلمي بالفكر والعقل الثقافي بالأدب وبقي د. علي كمال يذكر العراق بمحبة ويحن الى وطنه وقد ترك عبارته الشهيره قبل غيابه عام 1996 قائلا؛ " : فلسطين هي امي والعراق هي خالتي التي ربتني. "