الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
وظيفة الرّمز في تشكيل الوعي الإنساني

بواسطة azzaman

وظيفة الرّمز في تشكيل الوعي الإنساني

 

عـلاء لازم العيـسى

 

الرمز مكوّن أساسي من مكوّنات العقل البشري استخدمه البشر في شتّى أنحاء العالم في التعبير وتبادل الاتّصالات فيما يتعلّق بالأمور التي تعني الكثير لهم ، منذ ما قبل التاريخ حتى يومنا هذا ، ويستعمل في الحياة اليوميّة أيضًا . والرّمز كلمة ذات معان متعدّدة ، وغالبًا ما تعني كلّ ما يحلّ محلّ شيء آخر في الدلالة عليه ، لا بطريقة المطابقة التامة وإنّما بالإيحاء أو بوجود علاقة عرضيّة أو متعارف عليها ، وعادة يكون الرمز بهذا المعنى شيئًا ملموسًا يحلّ محل المجرّد ، ولهذا تُعدّ الرموز أبعادًا غنيًّة جدًا من أبعاد المعنى ومفاتيح لفهم عالمنا الإنساني واستراتيجيّات ، بحسب عبارة الفيلسوف الأمريكي كينيث بورك ، لفهم المواقف . وعن هذا المعنى كتب جوناثان كلر يقول : (( ولكي نفهم عالمنا الاجتماعي والثقافي  علينا أن نفكّر لا في الأشياء المستقلّة بل في الأبنية الرمزيّة ، في أنظمة العلاقات التي تخلق عالمًا إنسانيًّا ، من خلال تمكينها للأشياء والأفعال أن يكون لها معنى )).

   الإنسان حيوان رامز

   وانطلاقًا من هذا الفهم لوظيفة الرّمز في حياتنا عرّف أرنست كاسيرر  ( الإنسان بأنّه حيوان رامز قبل كلّ شيء ) أي حيوان يصنع الرّموز ويعيش في عالم من الرّموز ، وليست الرموز البشريّة مجرّد مجموعة من العلامات التي تشير إلى بعض المعاني أو الأفكار أو التصوّرات ، بل هي شبكة معقّدة من الأشكال التي تعبّر عن مشاعر الإنسان وانفعالاته وأهوائه ومعتقداته . وقد عدّ الفيلسوف بول ريكور أنّ كلّ رمز أصيل يمتلك ثلاثة أبعاد ملموسة ، فهو في الوقت نفسه : ( عالميّ ، وحُلمي ، وشاعريّ ) ، عالميّ أي يقتبس رسمه بسخاء من العالم المحيط بنا بشكل جيّد ؛ وحُلْمي أي يتأصل في ذكريات الإنسان ، وأخيرًا هو شاعريّ أي أنّ الرّمز يستدعي اللغة ، واللغة الأكثر غزارة إذن هي الأكثر مادية . 

   إنّ الوعي الرمزي يختصّ به الإنسان دون سائر الكائنات الأخرى ، ويتجسّد هذا الوعي بخلق الرموز التي تلتقطها الحواس بوصفها أبوابًا للمعرفة ، ثمّ تقوم كلّ حاسة بنصيبها من الادراك الرمزي حسب طريقتها الخاصة ، وحين يفضي هذا الإدراك إلى أفكار وتصوّرات ، فإنّها تبقى غامضة ومبهمة ما لم تمسكها اللغة وتدخلها في عالم حيّ يزخر بالرموز الدالة . من هنا ذهبت الفيلسوفة الأميركيّة المعاصرة سوزان لانجر إلى أنّ (( الإنسان كينونة رامزة لا تستقرّ من تجوالها إلّا في رحاب الميتافيزيقا وما وراء الحسّ الظاهر ، وهو وحده المخلوق الذي لا يكفّ عن صنع الرموز ، لأن من شأن الرمز أن يوسّع من دائرة معرفتنا ، ويمتدّ بنا إلى ما وراء مجال خبرتنا الواقعيّة أو دائرة تجربتنا الحاليّة )) . وفي التحليل النفسي الفرويدي ينظر إلى الرموز على أنّها تقوم مقام باعث ما تمّ كبته ، وبهذا المعنى يغلب أن يكون للرموز علاقة بما ترمز إليه أو تدلّ عليه ، وهي علاقة كثيرًا ما تكون استعاريّة.

   الرمز ولغة الطّفل

   ويلعب الفكر الرمزي دورًا نتفهّم اليوم أهمّيته في إنماء لغة الطفل ، فقد أكّد بياجيه على الفترة من ( 2 ـــ 7 ) من عمر الطفل ، حيث تنمو الوظيفة الرمزيّة الوظيفة المتكوّنة لتثير برمزيتها ، تمثيلًا شخصيًّا ، أو حدثًا غائبًا  إذ أنّه في هذا المجموع الرمزي الواسع تتكامل اللغة ، ثمّ يُدرّب الطفل على عمليّات ملموسة قبل أن يصبح مؤهلًا للتفكير حول مفاهيم مجرّدة ، وتُضمن التطوّرات باستدعاء رمزيّات جديدة . ولا يمكن أن يُفهم الرمز إلّا في سياق عقيدته أو ثقافته أو خلفيّته الميافيزيقيّة والتربة التي نشأ فيها ، ولهذا تعدّدت التقسيمات الرمزيّة بتعدّد الموضوع الذي يكشف عنه المعنى الرمزي ، منها : الرموز الأسطوريّة ، والدينيّة ، والنفسيّة ، والتعبيريّة ، ورموز التراث .

   رموز العلم والأدب

   هذا ويميّز العلماء بين الرموز كلّ بحسب طبيعته، فالرموز العلميّة تختلف في طبيعتها عن رموز الأدب ، من حيث كونها إشارات أو علامات ذات دلالة محدّدة ، متّفق عليها عُرفًا واصطلاحًا ، وهو ما نلاحظه في ميدان الفيزياء والكيمياء والرياضيّات ، التي تقوم فيها الحروف أو مجموعة من الحروف بوصفها إشارات تعبّر عن حقائق معيّنة  أو صيغ تفاعل تلك الحقائق مع بعضها ، وهي رموز لا يختلف فيها اثنان لكونها ذات دلالات عامّة . أمّا الأدب  ـــ وبالنظر إلى خضوعه إلى سلطة الخيال ـــ فإنّه يتعامل مع اللغة بحريّة تامة ، فيشكّل من الألفاظ ما يشاء من الصور والعلاقات ، مسوقًا بتأثير الانفعال والعاطفة ، واندفاعات الفكر العميقة ، فيقيم بين الأشياء علاقات غريبة تمتم الغرابة  إذ يجرّدها من طبيعتها المألوفة لتعيش في عالم  خاص لا مثيل له في عُرف المدركات الحسيّة المعهودة ، ففي الأدب يمكن أن يكون الفم أعمى ، ويستطيع الضوء أن يُحدث صريرًا ؛ ولذلك فإنّ هناك رموزًا في الشّعر ولكن ليس في الكتابات العلميّة .

   قداسة الرّمز

   ولئن كان للرّموز ـــ بصورة عامّة ـــ تأثيرًا كبيرًا على قولبة الأعمال الإنسانيّة ، واستثارتها للعواطف الأخلاقيّة والمواقف الاجتماعيّة ، فإنّ الرّموز الدينيّة المقدّسة (( تعمل في تركيب روح الجماعة أو الخصيصة المميّزة لها ، نغمة حياتهم وطبيعة هذه الحياة ونوعيّتها ، وأسلوبهم ومزاجهم في الأخلاق والمال ، ونظرتهم إلى العالم ، الصّورة التي تتكوّن عندهم عن طريقة عمل الأشياء في الواقع ، وأفكارهم الأكثر شمولًا عن النّظام ، ففي الإيمان والممارسة الدينيين تكتسب روح الجماعة مبرّرًا فكريًّا عبر إظهارها بأنّها تمثّل طريقة حياة متكيّفة بشكل مثالي مع الحالة الفعليّة للأمور الموصوفة في نظرتهم إلى العالم ، بينما تصبح النظرة إلى العالم مقنّعة عاطفيًّا بعرضها على أنّها صورة للأحوال الواقعيّة مرتّبة بشكل جيّد موائم لهكذا طريقة حياة )). 

   بين العلامة والرمز    

   كما ميّز العلماء بين العلامة والرمز ، إذ أنّ المشار إليه بعلامة أبسط بكثير من الفكرة أو المعنى المشار إليه بالرمز  ويضرب المثل على ذلك بالعلم الأحمر عندما يوضع في الطريق حيث يكون في مثل هذه الحالة علامة على وجود خطر ، بينما إذا رفعته دولة أو منظّمة فإنّه يدلّ على معاني إيديولوجيّة ويكون رمزًا لكلّ هذه المعاني والأفكار(( وكان الخطاب الديني المسيحي أثناء المواعظ الكنسيّة لا يتعامل مع اللون الأحمر إلّا في سياق ارتباطه بصلب المسيح وآلامه ، إنّ الأحمر هو لون الدماء ، كما أنّ الدماء ـــ قبل كلّ شيء ـــ هي دماء المسيح )) . وقد سبق لهيجل أن ميّز بين الرّمز والعلامة ، مشيرًا إلى أنّ العلاقة التي تربط العلامة الحقيقيّة بالشيء الّذي تدلّ عليه هي علاقة اعتباطيّة لا ضرورة فيها ، أمّا في حالة الرّمز فالأمر مختلف تمامًا ؛ فالأسد ـــ مثلًا ـــ يستخدم كرمز للشهامة ، والثعلب كرمز للمكر ، والدّائرة كرمز للخلود ، غير أنّ الأسد والثعلب فيهما الصفات التي من المفروض أن تُعبّرا عن معناها ، وهكذا ففي حالة الرّمز على اختلاف أنواعه يحتوي الموضوع الخارجي في ذاته ومنذ البدء على المعنى الّذي استُخدم لتمثيله ، فهو ليس علامة اعتباطيّة ولا يُستعمل كيفما اتّفق ، بل هو علامة تتضمّن في شكلها الخارجي ذاته مضمون التّمثّل الّذي تُظهره.

   التفاعليّة الرّمزيّة

   وتمثّل التفاعليّة الرمزيّة في نطاق علم الاجتماع إطارًا نظريًّا يركّز على العلاقات القائمة بين الفاعلين أي الأفراد الإنسانيين ، معنى هذا أنّ التفاعليّة الرمزيّة تهتمّ بدراسة الوحدات الاجتماعيّة الصغرى التي يُطلق عليها ( الميكرو ) أكثر من اهتمامها بتحليل الوحدات الكبرى ( الماكرو ) داخل البناء الاجتماعي ، وتعتمد التفسيرات التي تقدّمها بحوث التفاعليّة الرمزيّة عادة على التسجيل التفصيلي للحياة اليوميّة ، الذي يتم عن طريق الملاحظة بالمشاركة أو الملاحظة غير المشاركة .

وقد تمّ تطوير التفاعليّة الرمزيّة في جامعة شيكاغو في أوائل القرن العشرين ، بمشاركة أساسيّة من الفيلسوف البراجماتي جورج هربرت ميد .

   لقد ذهب ميد سنة 1934 إلى أنّ الذات أو الأنا ، أو هويّتنا الشخصيّة ووعينا بأنفسنا ، ليس لها وجود مستقل عن علاقاتنا الاجتماعيّة بالآخرين ، فهي تتكوّن وتتغيّر باستمرار نتيجة أفعالنا تجاه الآخرين ، واستجاباتهم لأفعالنا ، وتوقّعاتنا لتلك الاستجابات ، أي من خلال تفاعلنا الاجتماعي مع الآخرين . ويقارن جورج ميد بين الاتّصال بين أفراد البشر والاتصال بين الكائنات غير الإنسانيّة ، ففي الاتصال بين الأحياء غير الإنسانيّة يستجيب الحيوان لأنماط السلوك أو الإيماءات الصادرة من فرد غيره عن طريق تحويره لإيماءاته الخاصة به ، أمّا ما يتميّز به الاتصال الإنساني فيتمثّل في أنّ الفرد من البشر لا يقتصر على مجرّد الاستجابة للإيماءة ، وإنّما يستجيب كذلك للعلاقة القائمة بين هذه الإيماءة وذلك الباعث أو الحادثة التي دفعت الطرف الآخر أو حفّزته إلى القيام بتلك الإيماءة ، وهكذا تصير الإيماءة ذات طابع رمزي ، ومن ثمّ تصبح ذات معنى .

   تصنيف التبادل الرّمزي

   ومن العبارات التي شاعت عند علماء الاجتماع في النصف الثاني من القرن العشرين عبارة ( التبادل الرّمزي )  والذي عُدّ بمثابة حدث عام وخاص يؤسّس الرّوابط الاجتماعيّة ، وييسّر التواصل بين الأفراد ، ويعمّق التضامن والاتّحاد . ويمكن تصنيف التبادل الرّمزي إلى ثلاثة أنواع كبيرة : دينيّة ، ودنيويّة ، وباطنيّة . يتضمّن النوع الديني الأعياد والشعائر الدينيّة والطقوس مثل صلوات الأعياد ، وزيارة قبور الموتى من الأقارب ، وزيارة أضرحة الأولياء وتقديم الهبات والنذور والأضاحي . أمّا المناسبات الدّنيويّة فتكون مرتبطة بدورات الحياة وبصورة خاصّة شعائر الميلاد والزواج ، كتقديم الهدايا للمتزوّجين حديثًا . ويتضمّن النوع الثالث الممارسات الباطنية مثل حلقات الذّكر أو الزار وغيرها .

  


مشاهدات 667
أضيف 2022/11/23 - 7:14 PM
آخر تحديث 2024/07/18 - 9:18 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 367 الشهر 7935 الكلي 9370007
الوقت الآن
الخميس 2024/7/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير