قائد الطائرة الخاصة للرئيس الأسبق يروي ساعات الرحلة الغريبة إلى الديار المقدسة:
صدام يذهب إلى السعودية للإبلاغ بقرار وقف الحرب مع إيران
علي لفتة سعيد
لم تزل الكثير من الحكايات والأحداث التي شهدها العهد الماضي ما قبل عام 2003.. أحداث بعضها معروفة للجميع، ظلّت غير طروقة أو معلنة أو منشورة، فهي في ذاكرة الذين عاشوها، وكانوا بعض صانعيها أو رواتها أو شهودها.
على شاطئ البحر الأبيض في الجانب التركي، ثمة حكايات كثيرة، تحمل الغرابة والاستغراب، مثلما تحمل معها الأفكار والتحليلات في طريقة الحكم والعمل والخوف وعدم الثقة والدولة القابضة والسلطة الحاكمة.
هناك على تلك الضفة تجد الكثير من المعايشين سواء منهم هاربون أم باحثون عن الهدوء، بعد زمن من العمل في كنف النظام السابق.. ربما هي حكايات صحيحة وحقيقية، وربما تم الزيادة عليها، ولكن لا تصل الى حد خلق الحكاية وصناعتها.. فكل لسان ينطق بما هو يريد ويشاء وينتمي.
في المدينة التركية وعلى مقهى الصيادين جلست مع عراقيين.. وكان الحوار والسؤال لأكتشف، أن من بينهم من هو مسؤول حماية طائرة صدام حسين.. لم أعرف رتبته أو درجته الحزبية أو حتى منصبه، لكن الأمر يكفي أنه مسؤول الحماية، أمضى اكثر من 15 عاما يعيش داخل طائرة تجوب دول العالم، مع صدام او بدونه، حين يسافر فيها شخصية كبيرة كما قال مثل طارق عزيز المقرّب جدا.. يشير الى أن مطارات العالم لا تقترب من الطائرة التي كتب عليها ( العراق) بلونيها الأبيض والأخضر.. يتحدث عن سفرٍ كثير، وكيف كان صدام يجلس في الطائرة.. لكن الأغرب في تلك الرحلات ما كانت الى السعودية وقبل يومين من وقف الحرب مع إيران.؟
{ كيف كانت الرحلة وأين هبط في السعودية. ومن استقبله وكيف؟
الى تركيا باتجاه عرعر
يقول ص.ع.. قبل يومين من وقف الحرب وكان ذلك سوم 6/8/1988.. وكنت أمام الطائرة في المطار سألني الرئيس إن كانت الطائرة جاهزة للسفر.. أجبته نعم، وكما هي العادة لا نعرف الى أين ومن يكون معه.. ومتى الانطلاق. لكن الطائرة جاهزة على أرض المطار. كان ذلك صباحا.. وصل أغلب اعضاء القيادة الى المطار بما فيه عزة الدوري وطه ياسين رمضان والوزراء إلّا طارق عزيز الذي طلب منه العودة الى دائرته.. كان صدام يرتدي البدلة العسكرية المعروفة. وقف مبتسما وطلب من الجميع إعادة حمايتهم الى بيوتهم.. وقال لهم: سنذهب في سفرة (أنا عازمكم). ثم طلب من الجميع الصعود الى الطائرة.. طبعا كما يقول (ص.ع) لم يتكلّم أحد أو يناقش, فقد تدرّب الجميع على السمع والطاعة وعدم المناقشة.. وطارت الطائرة، يقول كنت أنا قريب منه أقف في الطابق الأول من الطائرة، لأستلم توجيهاته.. كان الوحيد الذي يبتسم والآخرون في وجوم أو تساؤل، خاصة وأن الحرب لم يعلن عن انتهائها لتكون سفرة راحة.. طلب مني أن أبلغ قائد الطائرة بالتوجّه الى تركيا، صعدت بسرعة وأبلغته بالمسار. هزّ رأسه معلنا استلامه الأمر، وعدت الى مكاني قريبا من صدام الذي ترك الجميع وراح يسألني.. كم الوقت الى الحدود التركية؟ أجبته بالدقة.. وقال(عفية)
كنت أنظر الى الوجوه فأراها منصتة، ثمة انضباط غريب وعلاقات غريبة بين الجميع.. كنت شابا بعمر الرابعة والعشين حينها، ولم أكن مسؤولا عن حماية الطائرة، في هذه السفرة اصبحت في هذا المنصب بعد أن اختبرني الرئيس حين وجّه لي سؤالًا آخر.. كم من الوقت لنصل الى الحدود الأردنية إذا ما عادت الآن الطائرة؟ اجبته بالوقت.. وقال مرة أخرى (عفية) وحين ابلغت الطيار بالتوجه الى الحدود الاردنية بدلا من الدخول الى الأراضي التركية، هزّ راسه بالموافقة وفعل ما طلب منه، لأعود الى مكاني في الطابق الأول.. منبهر بهذه الجلسة التي فيها الجميع.. لا يتكلّمون حتى يتكلّم ولا يرد أحدهم حتى يتم توجيه سؤال له أو المطالبة برأي.. واكتشفت أن الجميع لا يعلم الى أيّة وجهة ستصل الطائرة، خاصة بعد أن وصلنا الى الحدود الغربية للعراق، ليسألني الرئيس.. كم من الوقت لنصل الى مطار جدة؟.. وحين أخبرته.. طلب مني أن يأتي قائد الطائرة، صعدت الى قمرة القيادة وأبلغت الطيار بطلب الرئيس.. وقفنا أمام الرئيس، سأله عن الوقت فأجابه، التفت لي الرئيس ثم التفت الى (حسين كامل) ووجه تبليغا بأن أكون مسؤول حماية الطائرة من الآن.. ثم التفت الى الطيار وطلب منه التوجه الى السعودية وهو ما حصل حيث تم الدخول الى الأجواء دون إخبار الجهات السعودية. وكنا بالتحديد فوق حدود عرعر السعودية حيث قاعدة عرعر الجوية. كنت حينها بالقرب من الطيار ورأيت طائرتين حربيتين تقومان بحركات استعراضية، نزلت إلى الرئيس وأبلغته وأشرت الى الطائرتين ليراهما من النافذة. ابتسم وهو في مكانه وطلب مني أن أبلغ الطيار بأن يكلمهم مباشرةً ويقول لهم بأن صدام حسين موجود في الطائرة ويقول لهم (جايكم خطار).
ما بين جدة ومكة
يواصل (ص.ع) حديثه وهو يوقد سيكارته.. لم يمض وقت طويل وقبل الاقتراب من الأجواء العراقية السعودية حتى حلقت طائرتان جديدتان لحماية الطائرة العراقية.. كان صدام ينظر لها ويبتسم.. فيبتسم الجميع، وقد شعرت يقول (ص.ع) أن الجميع ارتاح بعد أن عرف أن الوجهة الاساسية كانت للسعودية، وهم يعرفون الطائرة مجهزة بمطبخ كامل وأن وجبات الغداء حاضرة. وبالتأكيد يعرفون أن الجهات المسؤول أبلغت الملك فهد بان صدام حسين سيهبط في مطار الرياض. لكن الامر لم يكن كذلك.
في تلك اللحظة وقبل أن يتم تغيير الهبوط.. يقول سألني الرئيسي، أية مدينة أقرب إلى مكة المكرمة؟ فأجبته مدينة جدة.
فسألني عن الوقت من جدة إلى مكة المكرمة فأعطيته الوقت بالضبط بحدود 45 دقيقة فقال لي أبلغ قائد الطائرة بأن يتوجه إلى جده، فقلت له: سيدي الرياض هي العاصمة ومن الطبيعي الملك سينتظرك بمطار الرياض. فقال لي (اذهبوا إلى جدّة وبعدين نتفاهم).. ثم ضحك ضحكته العروفة. واتجهت الطائرة بحماية اربع طائرات باتجاه مدينة جدة.. وطلب مني صدام طلبا ربما لم افهمه في حينها.. أن يتم الاتصال بقادة الطائرات الحربية للاقتراب من الطائرة لتحيتهم.. وهو ما حصل حيث اقتربت طائرات اولا من كل جانب وتشار لهم بالتحية وأدوا لهم التحية ثم تبعتها الطائرتان الأخريتان بذات الحركة والتحية والسلام. هبطت الطائرة في مطار جدة.. لم يتحرك أحد.. ظل الجميع كل في مكانه، وكنا نرى أمير جدة يستعد لاستقبال الرئيس.,. لكنه طلب مني أن أدعو الامير للصعود الى الطائرة والجلوس معنا.. ريثما يأتي الملك.. خاصة وان ما يقرب من ساعتين حتى وصوله.
الأمير وانتظار الملك
كان الاستغراب هو ما يلاحقني، ولا أقول الخوف، لأني لا أشعر به، خاصة بعد أن صرت مسؤولا عن حماية الطائرة الخاصة، يقول (ص.ع) ويضيف.. كنت أتخيّل أن الرئيس ينظر لي ويتابع خطواتي من نافذة الطائرة، وأنا أتقدم خطوات على السجادة الحمراء باتجاه أمير جدة الذي أخبرته أن السيد الرئيس يدعوه لتناول القهوة داخل الطائرة.. استغرب الأمير أو هكذا بدت ملامحه في تلك اللحظة.. وصعد الى سلم الطائرة بسرعة كمن عليه واجب يؤديه، حيث استقبله الرئيس بابتسامة كبيرة مثلما استقبله الجميع بالسلام عليه ومصافحته داخل الطائرة، وسحب الرئيس مضيفه من معصمه وأجلسه بجانبه في مكان طه ياسين رمضان.. وقال له (خلينا نسولف لحين وصول الملك).
كنت أرى الجميع يصغي ويبحث عن إجابة عن سبب السفر.. مثلما أقرأ على ملامح الأمير أسئلة عديدة، ربما هي ذاتها التي تدور في رأسي.. لماذا صدام والمسؤولين الكبار كلهم في السعودية؟ هكذا قال (ص. ع) وهو يوقد سيكارته الثانية وربما الثالثة.. ويضيف إن الحوار لم يكن عن الحرب العراقية الإيرانية، ولم يكن عن تحرير فلسطين مثلا، بل كان عن تاريخ العرب ووحدة العرب وأهمية أن ينسى العرب خلافاتهم.. وكان الأمير يهزّ رأسه مثلما يهزّ الجميع رؤوسهم موافقين على ما يسمعونه.. وربما ظلّ السؤال يدور في الطائرة والرؤوس عن سبب الزيارة.
تبليغ وإيقاف الحرب
يقول (ص.ع).. كنت مشغولا بملامح الرئيس ماذا يريد لأنفذه قبل أن يتكلّم، عليّ أن أتوقّع الأشياء خاصة وأنني كما قيل لي أتمتّع بذكاء جيد، وأن لي حاسّة التوقّع ومعرفة تفكير الآخرين.. وبهمة الواثق أخبرت الرئيس أن الملك وصل، فنهض الأمير لينزل أولا الى أرض المطار يتبعه الرئيس.
من أعلى السلم يقول (ص.ع) كنت أتابع ملامح الملك فهد، وكأنه يسأل مثل الجميع. كان واسع الابتسامة فارشًا ذراعيه ليحضن الرئيس ما أن وصل الى الأرض.. وسارا مع الوفدين الى قاعة المطار.. وهناك كانت مائدة الطعام قد أعدت من قبل فريق الطبخ العراقي.. وحيث أخبر صدام الملك انه يريد للملك أن يتذوّق الطعام العراقي.. لكن الحقيقة هي أن هذا الطعام هو في كل حل وترحال.. وهو أمر أمني كما يقول من أجل أمن وحياة السيد الرئيس.
يكمل (ص.ع) حديثه.. إن اجتماعا مغلقا عقد بين الاثنين.. ولم نعرف ماذا جرى.. حتى خرج الجميع من قاعة الاجتماع، حيث رأيت وجوه الوفد العراقي فرحة مبتسمة.. واستطعت من معرفة ماذا جرى بجملة واحدة من قبل إحدى الشخصيات.. إن السيد الرئيس أبلغ الملك أن وقف إطلاق النار مع ايران سيكون بعد يومين، وأنه يريد تبليغ القرار العراقي الى الملك أولا ويسمع رأيه، وأن رأي الملك كان مع وقف الحرب. وأن الجميع سيذهب لأداء العمرة.
حينها شعرت كما يقول أن الأرض تدور حول بغداد. وأن هذه الرحلة كانت الأغرب في حياتي وإن تشابهت الرحلات التي لا تقل شأنا، بل كانت الطائرة لوحدها محط حماية جيوش الدول التي تحط فيها.