لا تنظرْ إلى الأَعلى
عمار يحيى
وإذا أُجبرتَ أنْ تَنْظرْ، عليكَ أنْ تكونَ حَذراً من الحكومةِ الأمريكيةِ فيما إذا كنتَ أمريكيّاً! والسنغاليّةِ لو كنتَ سنغاليّاً، والموزمبيقيّةِ إذا كنتَ موزمبيقيّاً، وهكذا هلمَّ جرّاً.
عادةً، أُشاركُ أصدقائي المثقّفينَ جدّاً من مُحبّي لعبةِ الطاولي، آرائي في فلمٍ ما أكونُ قدْ شاهدتهُ مؤخّراً، وأنا أستهدفُ هذهِ الفئةَ بالذاتِ لطرحِ أفكاري لسببين، الأولُ لأنّني أُدركُ جيّداً بأنّهم لنْ يعترضوا على رأيي وتحليلي الشخصيِّ حولَ فكرةِ الفلمِ وأداءِ الممثّلينَ أوْ الإخراجِ الذي لا أعرفُ علميّاً شيئاً عنه! وهذا لأنّهم سيكونون مشغولينَ تماماً بإقناعِ النردِ أنْ يَتوافقَ مع حُظوظِهم. والسببُ الثاني هو أنّني لا أشعرُ بالحرجِ من تضييعِ أوقاتهم الثمينةِ لأنّني أستطيعُ طرحَ آرائي بحريةٍ مهما طالَ الوقتُ في موضوعٍ قد لا يَهُمّهم البتّة، بينما هم يمارسونَ لُعبَتهمُ المفضّلةَ برميِ النردِ الذي قد يُرضي ولو قليلاً آمالَهم -المحطمّة في الواقعِ- بأنّهم محظوظونَ ولو لمرةٍ خلالَ أيِّ رَميةٍ يحصلونَ فيها على الزوجِ المُتشابهِ من النّرد. ومع هذا فأنا لا أُخفي بأنّني أحياناً أشعرُ باليأسِ الشديدِ فيما يَخصُّ اهتمامهم بآرائي، خاصةً حينَ أصلُ إلى نقطةٍ مهمّةٍ تَتعلّقُ بجوهرِ الفلمِ مُندمجاً في تأييدِ رأيي ذاك دونَ أيِّ تركيزٍ على ما يفعلون، وبالصدفةِ يحصلُ أحدُ اللاعبينَ على "الدوشش" لتعلو صرخاتُ النصرِ بينَ الموجودينَ وتَعلو وجهي لوهلةٍ ابتسامةُ المنتصرِ اعتقاداً منّي بأنَّ هذا الهتافَ كان على الرأيِ العبقريِّ الذي طرحته! ومن المهمّ أنْ أُشيرَ هنا إلى أنّني لا أهتمُّ كثيراً فيما إذا كانوا قدْ شاهدوا الفلمَ أو لا، فأنا أعتبرُ هذا أمراً ثانويّاً يَعتمدُ على مدى قُدرتي في إقناعِ نفسي بأنَّ هناك جزءاً ما من عقولهم ما زالَ يُتابعُ ما أقولْ. وحتى يفهم القارئ مغزى نصيحتي التي بدأت بها كتابة هذا المقال، سأعودُ لأٌعطي لمحة عن الفلم الذي تدورُ أحداثه بصورةٍ عامّةٍ حولَ أستاذٍ في علمِ الفضاءِ وطالبتهِ المرشحةِ لنيلِ الدكتوراه، حين تكتشفُ الأخيرةُ بالصدفةِ نيزكاً كبيراً يتّجهُ مباشرةً نحو الأرض، ويعملانِ سويّةً على إقناعِ السلطاتِ الأمريكيةِ العليا لإيجادِ حلٍّ عاجلٍ وتفتيتِ النيزكِ في الفضاءِ وتجنّبِ ارتطامهِ بالأرضِ، الأمر الذي سيؤدّي حدوثهُ لا محالةَ إلى نهايةِ الحياةِ بجميعِ أشكالها. وبينما يُظهرُ الفلمُ الحقيقةَ الواضحةَ وضوحَ الشمسِ بعدمِ اكتراثِ الحكومةِ الأمريكيّةِ المتمثّلةِ بالرئيسةِ والنائب، سوى بإعادةِ انتخابها لدورةٍ جديدة، ورفعِهم شعار "لا تَنْظرْ إلى الأعلى"، حتى لا يتمكّنَ الناسُ من ملاحظةِ اقترابِ النيزكِ من الأرض، يُكافحُ العالِمانِ برفعِ شعارٍ مضاد "أنظرْ إلى الأعلى" ولكن دونَ أيِّ اهتمامٍ من الناس، بلْ وحتى أنّ شخصيّةَ العالِمَينِ أقربُ ما تكون إلى شخصيّتينِ مَهزوزتينِ مجنونتين، كرسالةٍ على أنَّ من يهتمُّ بالحقيقةِ غالباً ما يكونون مجانين!
أظهرَ المخرجُ في هذا الفلم الذي ترشّح لأربعة جوائز أوسكار، استهتارَ الحكومةِ والإعلامِ الأمريكيّ بالحدثِ المهمِّ لدرجةِ أنّهم جعلوا الشعبَ يهتمُّ بطلاقِ المطربةِ "رايلي" اهتماماً أكبرَ من الفناءِ القادمِ إليهم بسرعةٍ من الفضاء. وهكذا، أثناءَ سردي لأحداثِ الفلمِ لأصدقائي الذين كانوا مستمرّينَ باللعب، انطفأتْ الكهرباءُ وتوقفَ الجميعُ عن اللعبِ تجنّباً لئلّا يقومَ أحدهم بحيلةٍ مُستغِلّاً الظلامَ الدامسَ! فتحتُ الفيس بوك بعد أنْ تأخرتْ عودةُ الكهرباءِ لأرى بأنّ المنشوراتَ كلّها تتحدّثُ عن قطعٍ نهائيٍّ لكهرباءِ المولداتِ الأهليّةِ بسببِ توقّفِ الدعمِ الحكوميّ لهم وإيقافِ تزويدهم بالوقودِ المدعومِ، بعدَ أنْ كانت قد أعلنتْ سابقاً بأنّ الكهرباءَ الحكوميّة لنْ توجدَ بعد اليومِ وأنّ الشركاتَ الأهليّةَ هي التي ستتولّى أمرَ تزويدِ الكهرباءِ للمواطنين! رُحْتُ أقرأُ المنشوراتَ بصوتٍ عالٍ حتى يَسمعَ من في المقهى الأمرَ الجللَ الذي يَحدث، وأنّنا لنْ نَنْعمَ بالكهرباءِ مرّةً أُخرى. لكنّ أصدقائي كانوا قدْ أشْعَلوا أضواءَ هواتفهم مُستمرّين باللعبِ لِتعلو صَيْحاتُهم مرّةً أُخرى: شَش بيش! أَصابني اليأسُ من أنْ يُنْصِتَ أحدهم للأمر الجَللِ الذي يَحدُث، ونهضتُ عائداً وأنا أُقسِمُ ألّا أُشاركهم آرائي مُجدّداً حتى لو ضربَ النيزكُ الأرضَ مرةً أُخرى! قرّرتُ أيضاً وأنا أسيرُ عائداً إلى البيتِ تحتَ جنحِ الظلامِ الدامسِ الذي غطّى البقعةَ الأقدمَ حضارةً من الكرةِ الأرضيّة، واستناداً لأحداثِ الفلمِ الذي رفعتْ فيهِ الحكومةُ الأمريكيّةُ شعار "لا تنظرْ إلى الأعلى"، أنْ ألتزمَ بالشعار وألّا أنظرَ إلى الأعلى حتى لا أسقطَ متعثّراً، وربما حتى لا أرى الحقيقة المُرةَ التي تبدو أوضحَ في السماء! فهي، أي الحكوماتُ حولَ العالم، تعرفُ كلَّ شيءٍ بالتأكيد "أفضلَ منّا جميعاً".