الوردي والصدام مع المجتمع
ماهر نصرت
لقد افرغ الدكتور علي الوردي مافي جعبته من أفكار وحقائق أحدثت انقلاباً هائلاً وتصوراً فلسفياً جديداً في النظرة إلى عرفنا الاجتماعي الموروث من القرون الماضية ، فقد سلط الضوء بجرأة وشجاعة نادرة على ما كان مخفي من حقائق وخاصة في موضوع
(الشخصية المزدوجة ) التي مازال الكثير في مجتمعاتنا يتصف بها ... ومن المؤسف حقاً ان تفتقر مؤسساتنا التعليمية المزدحمة بشهادات الأستاذية أو ما يسمى ( دكتوراه ) إلى من يكمل مسيرة هذا العالم الجليل الذي بدأ مشواره في دراسة ( علم الاجتماع ) منذ أربعينيات القرن الماضي بصعوبة وخطورة بالغة لعدم تقبل المتعصبين من رجال الدين آنذاك ماجاء به الوردي من سطور صريحة أخرج من خلالها حقائق مطمورة في العقول الباطنة لمجتمعاتنا بعد أن قام بتشريح طبائع وتقاليد مجتمعاتنا بصراحة وفق الرؤيا العلمية الحديثة التي أكتسبها بكفاح في مسيرته الدراسية الطويلة ، ومازال البعض من أولئك المتعصبون يحذو حذو أسلافه الذين يرفضون أفكاره الصريحة المجددة وسهام كلماته الجارحة كما يتصورونها.
أن الدكتور الوردي رحمه الله كان المستكشف الأول لإسرار المجتمع العراقي في عصرنا الحديث ولإيقل اكتشافه هذا على سبيل المثال عن أهمية اكتشاف كريستوفر كولومبس للقارة الأمريكية التي نشأت فيها الولايات المتحدة بحسبها ونسبها ... أن إكمال دراسته في الجامعة الأمريكية في بيروت وحصوله على شهادة الماجستير من إحدى الجامعات البريطانية والدكتوراه من الولايات المتحدة الأمريكية كان له الأثر البالغ في نبوغه وجرأته بتخصصه علم الاجتماع الى هذا المستوى الرفيع .. فقد استطاع ببسالة الفارس المغوار ان يفك الغاز شخصية مجتمعاتنا ويفضح المخفي من طبائعها المترسبة في النفوس منذ قرون طويلة وقد هددوه بالقتل لمرات عديدة بسبب نقده العلني الجريء لبعض العقائد والتقاليد الاجتماعية المتأخرة حتى وقف كما يقف شراع السفينة أمام الرياح ليمضي بالسفينة الى غاياتها فقد تحدى جميع الحناجر التي صرخت ضده والاقلام التي شوهت صورته واكمل مسيرته النبيلة وحيداً في مجتمع يرفض التغيير والتجديد ، فلم يتجرء اي متخصص اجتماعي آخر في الماضي أو الحاضر من البوح بنفس الصراحة التي جائنا بها هذا المفكر المغوار ... وللأسف لم يكمل إي من أقران الدكتور الوردي او تلاميذه ما بناه من أرث علمي اجتماعي فلسفي على مدى خمسين سنة كانت مليئة بأشكال متنوعة من اللوعــة والمشقة وسط مجتمع ستاتيكي راكد يرفض التغيير فبقيت مؤلفاته مهملة لعقود من الزمن وكأنها أطلال مهجورة ينعق على جدرانها البوم ... حتى أدرك المجتمع مافيها من صراحةٍ ونبوغٍ ووصف دقيق لما هو سيء من تقاليدنا وطبائعنا التي تعود بجذورها إلى حياة البداوة وهي تأخذ من الصحراء الجدباء وطناً لها حتى اصطدمت مجتمعاتنا بالانفتاح الحضاري المتقدم الذي دخل الى العراق بعد دخول القوات البريطانية في العام 1917 الى البصرة وقـــــــيامها بالتقدم شمالاً وهي تطارد فلول القوات العثمانية المتقهقرة.
وحي الثمانين
فقد راح البعض من المعجبين بمؤلفات الوردي وما جاء فيها من أفكار وآراء رائعة أن يؤلفوا الكتب التي تصب في دراسة مؤلفاته بموضوعية (مجردة من الانحياز) من أمثال الصحفي المعروف سلام الشماع وكتبه ( من وحي الثمانين وخفايا من حياة علي الوردي وغيرها ) وكذلك ماجائنا به الصحفي البارع سعد البزاز من كتب قيمة مثل ( سلسلة كتب الطبيعة البشرية تقديم سعد البزاز ) وكذلك الدكتور حميد الهاشمي ( وكتابه علي الوردي ودراسة المجتمعين العراقي والعربي ) ولا ننسى ايضاً كتاب ابراهيم الحيدري(علي الوردي شخصيته ومنهاجه وأفكاره الاجتماعية) وغيرهم .
...أكاد أراه وهو يطل علينا من مكان ما في سماءنا ينتظر بحسرة من يأتي بعده ليكمل ما بدئه عسى أن يصحح مسير مجتمعاتنا التي مازالت أسيرة تقاليد وطبائع موروثة تقودنا نحو الفوضى ومزيداً من التراجع الحضاري...