(١)
في إحدى إجازاتي من جبهة الحرب؛ طُرقتْ باب الغرفة التي نمضي فيها أيام الإجازة نحنُ الأخوة الثلاثة؛ نحتسي دمع عذاباتنا من ويلات الحرب؛ كان الطارق أبي رحمهُ الله، سارعتُ لإخفاء قنينة ابنة الكروم تحت السرير مع الكأس احتراماً لحضورهِ؛ عندما دخل الغرفة كانت رائحة ابنة الكروم طاغية ومن المؤكَّد استنشقها؛ جلس بجواري على حافة السرير وقال:
•أخوك علي في إجازته الأخيرة؛ أحرجنا أمام الأقارب.
•ماذا فعل؟
•لقد حضروا لزيارة أمك المريضة؛ وكان الرئيس يخطب من خلال التلفاز؛ وإذا بأخيكَ علي يرفع حذاءً ويضعهُ فوق التلفاز أمام أنظارهم.
صمتَ لحظةً يستردُّ أنفاسه وأردف قائلاً بحذر:
•ما أدرانا ماذا يضمر الأقارب في قلوبهم علينا؟
أجبتهُ منفعلاً:
•هذا تصرّف أحمق منهُ.
•أريدكَ أنْ تكتب رسالة تحذِّرهُ من هذه الأفعال الخطيرة؛ وعندما يعود بإجازة يقرأها.
•سأكتب يا أبتي؛ لا تقلق
غادرني أبي مهمومًا؛ بينما استأنفتُ احتساء ابنة الكروم؛ بعد مضي ساعة ثملتُ، سمعتُ صوت الرئيس يخطب من التلفاز في صالة المنزل؛ نهضتُ منزعجاً، دخلتُ إلى الصالة؛ كان أبي وأمي وأُخيَّاتي يتطلَّعون إلى شاشة التلفاز؛ وفي لحظة انتشلتُ”جزمتي العسكرية” لأضعها فوق التلفاز
هزَّ يدهُ أبتي غاضباً وقال:
•لا ربحنه.
(٢)
كان أحد جنود الكتيبة المنحدر من ريف السماوة، يحرص على ترديد أذان المغرب في شهر رمضان، حيث يصعد على ظهر دبابته وبصوته الجهوري يهتف الله اكبر إلى آخر الأذان، كان يفعل ذلك لكسب الأجر المضاعف من صيامه المضبوط كما يعتقد، ذات غروب وقبل موعد الإفطار بدقائق، ترك الملجأ كعادته استعداداً للصعود على ظهر الدبابة لتأدية نداء الأذان، وقبل أنْ يصل إلى الدبابة اخترق صمت الجبهة صفير قذيفة مدفع ١٠٦ملم قادمة من جهة الإيرانيين، كان صوت القذيفة المرعب قد صمَّ الآذان لقربه من ملاجئنا، ثم سمعنا صوت الانفجار، ومن سوء الحظ انفلقت القذيفة بجوار دبابة الجندي المؤذن، خمَّنَّا أنَّ الشظايا مزقت جسده النحيف، ورأينا دخان القذيفة يغطي الدبابة بسواده الكثيف، نادينا بقلق عليه: عبد الله.. عبد الله.. ولم نسمع جواباً منهُ، لمَّا انقشعتْ غمامة الدخان لاحَ أمام أنظارنا وهو يقف بطول قامته على ظهر الدبابة ثم سمعنا صوته يشقُّ هواجس الخوف والقلق التي حاصرتنا:
- اشتعلْ مذهبكِ؛ كادتْ تمزقني أوصالًا؛ وكان يقصد القذيفة.
(٣)
كان سائق عجلة آمر سريتنا من قبائل البدو؛ في كل إجازة يستحقها؛ يعود مهمومًا؛ لأنَّ أهلهُ لا يجدهم؛ فهم ينتقلون بحثاً عن الكلأ للأباعر؛ ويقتل أيام الأجازة السبع بالبحث عنهم؛ أحياناً يجدهم وفي أحايين كثيرة يعود بدون اللقاء بهم؛ ذات إجازة اشتدَّتْ أزمة النقل في البلاد نتيجة شحَّة الحافلات التي تقلُّ الجنود وقلَّة الوقود أيضاً؛ وإذا بالسائق “ريكان” يدخل إلى السريَّة على ظهر جملٍ؛ فعقدت ألسنتنا الدهشة؛ هبط من الجمل برشاقة وهو يقول:
- لم أجد سوى البعير حتى أصل لكم.
(٤)
صادفتْ إجازتي من الحرب مع أخي علي النوَّاب ذات مرَّة؛ كان حدثاً استثنائياً؛ جلسنا نحتسي ابنة الكروم ونتجادل حول رواية شرق المتوسط لعبد الرحمن منيف؛ هو يقول:
- رجب كان بوسعهِ أنْ يكون بمنأى عن هذه العذابات الهائلة؛ لو كان إنساناً بلا فكرة.
أجيبهُ:
- الأفكار الخطيرة تلاحق الإنسان الذكي.
حتى احتدم الجدال وثملنا؛ في لحظة قررنا الذهاب على دراجة هوائية لتناول الطعام في مركز المدينة؛ كنتُ أقودُ الدرَّاجة وهو يجلس خلفي؛ كان الطريق إلى مركز المدينة يستغرق أكثر من ١٥ دقيقة؛ عندما وصلت إلى المطعم اكتشفتُ أنَّ أخي علي النوَّاب لم يكنْ معي؛ لم أأبه بسبب ثمالتي؛ تناولتُ ربع دجاجة مشويَّة وأخذت مثلها سفري لهُ؛ خلال طريق العودة تبخَّرتْ ابنة الكروم من رأسي؛ قلقتُ على أخي علي النوَّاب؛ عندما دخلتُ المنزل وجدتهُ يقرأ برواية شرق المتوسط؛ سألتهُ:
- كيف عدت؟
- لقد سقطتُ من الدراجة الهوائية خلال الطريق؛ وصحتُ عليكَ لكنك لم تسمعني؛ فعدتُ بأدراجي مشيَّاً إلى المنزل لتكملة أحداث الرواية.
* رجب بطل رواية شرق المتوسط.
(٥)
ذات رمضان؛ قرَّرتُ الصيام في جبهة الحرب؛ أسوةً بباقي جنود الرعيل؛ وقبل الفطور بساعة كنتُ مستغرقاً برواية “عالم بلا خرائط” حتى وصلت إلى صفحة من الرواية تبدأ نجوى العامري بطلة الرواية بخلع ملابسها قطعة قطعة وتذهب عارية لتغمر جسدها البلَّوري في البحر؛ اهتاجتْ جميع الحواس عندي؛ تركتُ الرواية على سريري؛ ومثل معتوه ذهبتُ للعراء استحضرها أمامي حتى ارتجف كياني برعشةٍ لذيذة لم تكرر طيلة حياتي؛ عندما حان موعد الفطور؛ كنت أتناول الفطور ونجوى العامري تجلس بين أحضاني.