تشرين الشهيدة
علي الشكري
في تسعينيات القرن المنصرم ، وحيث كانت آثار الحظر الاقتصادي على العراق تشتد ، راح الشرفاء من أبناء العراق يجترون ما عندهم من أجل العيش ، حتى باع السواد الأعظم الغالب من مقتنياته الا الشرف والكرامة ، حيث ظلتا عصية على من أراد بهما سوءاً . وفي أوج الأزمة راح رجل فقير يسكن حي قديم ، سواده الأعظم من البؤساء المتعففين ، ممن استهدفهم قاسم الانقلاب ، فكتب عليهم الشقاء حينما اسكنهم بيوتاً لا تتجاوز مساحة الوحدة مائة وعشرون متراً ، واستمراراً لنهج استهداف أبناء القضاء عمل كل الانقلابيون على استهدافهم ، سجناً وتجمقاومة الطغيان والاستبداد . في أوج أزمة الحصار راح الرجل الطيب يستجمع ما عنده من قليل المال وعلى مدى أشهر خمسة ليشتري منظم غاز ، وبعد نجاح الخطة ، وشراء المستهدف ، واحتفاء الأسرة بالقادم الجديد ، استيقضت العائلة بعد يومين على صوت كبيرها مغمي عليه ، بعد أن صُدم بحادثة سرقة المحتفى به قبل سويعات ، وقد وقع الحادث الجلل صبيحة يوم الجمعة ، أقامة الأسرة مجلس الفاتحة على ذكرى المسروق ، وراح الجيران يتولون تباعاً معزين بالراحل ، داعين الله أن لا يهنأ السارق بما أمتدت إليه يده ، وبعد ساعتين وحيث انتهى مجلس العزاء ، جلس رب الأسرة على عتبة باب داره ، لفت نظره توجه كل أهل الحي صوب الجامع ، مسرعين متزاحمين متدافعين، فراح المفجوع يتساءل أين يذهب الناس ؟ ولماذا التدافع والتزاحم ؟ وهل من باق في بيته ؟ فرد أحد الزاحفين مع الركب ، ألا تعلم أن اليوم جمعة ؟ فرد المفجوع نعم ، فطرح المجيب يا حاج حان وقت صلاة الجمعة ولبى الجمع نداء الداع ، فطرح الشايب سؤال لم يجد له إجابة حتى انتقل الى جوار ربه ، ومن سرق المنظم إذا خرج الجميع للصلاة ؟ واليوم تتكرر فاجعة المنظم ولكن بصورة تشرين ، كل من في العراق يبكي على تشرين ومن نهض بها ، ومن استشهد على اعتابها ، إذ راحت تشرين تستوعب كل ذي حاجة ، فهي مأوى الباحث عن الوطن والاصلاح والتصحيح ، وفيها يرفع الساعي الى المنصب صوته ، ومن خلالها يمكن مهاجمة الوطن واستهداف الشريف وحامل المبدأ والمدافع عن القضية ، وهي مناسبة لرفع الشعار ضد الرئيس الاداري الاعلى ومن تقدم باستحقاق ، في تشرين يلتقي أبناء الوطن والمُتاجرين فيه ، الشريف والفاسد ، اللص والسلطان ، المبدأي والمتلون ، الشهيد والقاتل ، صاحب القضية والمتفرج ، الناصح والخائن . عجيب أمرك تشرين جمعتي كل المتناقضات ، وحويتي كل الأجناس ، ورُفعت فيك كل الشعارات ، وتعرضتي لكل الاستهدافات ، ونُفذت من خلالك كل الأجندات ، عجيب أمرك تشرين على اعتابك سقطت حكومات وزال حكام واعتلى آخرون ، وبنضالاتك حُلت مجالس نيابية وأجريت انتخابات مبكرة ، تحققت بدماء شهداءك اهداف ومآرب ، لكن الاهداف الكبرى التي من أجلها كنتِ لما تزل غائبة ، فالفساد في تزايد ، والمافيات في انشطار ، والمخدرات راحت سلعة متداولة محمية ، الفاشلون يشغلون المناصب العليا والأكفاء مقصيون ، أموال العراق منهوبة وثرواته مهدورة ، قطاع الطرق يجوبون الأحياء ، والخارجون عن القانون راح بعضهم يقود المتظاهرين ، عجيب أمرك تشرين وحدتي الاديان والمذاهب والطوائف والاجناس والقوميات ، وجمعتي ما فشل غيرك عن فعله ، إذ راح الجميع ينادي بوحدة الوطن ، ونبذ الفرقة ، ورفض الفساد ، وإصلاح المنظومة ، لكنك لم توحدِ أبناءك على كلمة سواء ، إذ راح كل منهم يؤسس لمشروع ، ويبني كيان ، ويُنشأ حزب ، ويبحث عن تمويل ، والحصيلة فقدان بوصلة ، وضياع هدف ، وذهاب رياح ، وتراجع وطن ، وصعود انتهازين ، وخسران نفس ودم وروح . والمصلح والمندس يندب حظ ، ويلوم فائز ، ويُندد بمنتصر ، ويُهاجم معتلي منصب ، نظم أمره ، ووحده صفه ، وجمع جمهوره ، وموّل حملته ، فكسب الجولة وتصدر المشهد مجدداً . فليس من الديمقراطية أن تحجب جمهور حزب ، أو تحظر كيان استوفى متطلبات تأسيسه ، أو تمنع مشاركة كيان يمثل رأي وتطلع وأمل ، لكن الديمقراطية كلها أن تنبذ خلاف ، وتوحد كلمة ، وتجمع مؤيد ، وتصدق نية ، وتعصم نفس ، وتحتجب عن غنيمة ، وتصد عن الوافد ، وتحمل الوطن هم وقضية وهدف ومشروع ، فالوطن ناصر أبناءه حيث أبناءه ينصرون .