من يجلس إلى يمين فؤادي بعد اليوم ?
هارون محمد
يا سبحان الله، خاف علينا، سلام الشماع، وأشفق على حالنا، نحن صحبه وخلانه، الشاعر الكبير حميد سعيد، والاستاذ محمد دبدب والحاج عزيز، والمهندس عبدالرزاق أبو سامر وأنا، وأصدر الينا ايعازاً صارماً، ان نكتفي نحن الخمسة، بالصلاة على جثمان الصديق الراحل نديم الياسين، في مسجد الشركس بشارع البيادر في عمان، وتجنب الذهاب الى المقبرة البعيدة، لاننا في رأيه، لا نقوى على تحمَل الحر والغبار وزحمة الطريق، وقال بلهجة آمرة وهو يدمدم: أخشى أن يسقط أحدكم من شدة الاعياء والتعب والحزن على فقيدنا، أبي كفاح، و(آني آكلها.. ودي للطبيب وشيل للمستشفى)!، واستجبنا لـ(لفرمان) السلطان الخزرجي، والصحيح رضخنا له، شرط ان يرافقنا في عودتنا، ووافق على مضض.
تناول الدواء
وقادنا ابو سامر، الى مطعم عراقي في شارع الجاردنز، بعد أن ذهب أبو بادية وابن دبدب الى بيتيهما، وقد أزف وقت تناولهما الدواء، وفي المطعم الفلوجي النكهة والحضور، همس في أذني، (أكو مرقة شجر)!، التي تجمعنا رغبة مشتركة في تناولها، برغم أنه يعترض على طريقة طبخها هنا، وكثيراً ما كان يقول: أين أم زمن، أين دعاء، ابنة شقيقه، وهو يغالي بمهارتهما في اعداد الأكلات العراقية، على الطريقة (الكاظماوية)، التي لطالما دخل في سجال مع صديقنا ابراهيم الدهان الأعظمي، في الدفاع عنها، والترويج لها.
وانتقلنا الى (كهوة) الطرف، كما يسميها سلام، فوانيس، وقد اعتدنا الذهاب اليها، والجلوس فيها، صباح مساء، ولعبنا (الدومينو)، وفاز سلام مع شريكه الحاج عزيزعلينا، ابو سامر وأنا، وطار من الفرح وهو يشمت بخسارتنا، ونحن الذين نعتبره غشيماً في اللعبة، طارئاً عليها، وزاد علينا متوعداً، بانزال هزيمة ساحقة بنا، عندما نلتئم من جديد ليلاً.
وبعد دقائق ربما ربع الساعة لا أكثر، هاتفنا الصديق الدكتور عبدالستار الراوي من دبي، وأعلمنا بان سلام (بي شي) !، كيف يارجل، وقد افترقنا عنه قبل قليل؟، وعرفنا انه تلقى اتصالاً من أولاده في بغداد، وأبلغوه بان الخط الهاتفي قد قطع فجأة مع والدهم وكانوا في مكالمة معه، وهرعنا الى شقة سلام المتواضعة، القريبة من سكن الاستاذ حميد ومني أيضاً، وكسرنا بابها الخارجي، وكانت صاعقة نزلت على رؤوسنا، سلام في غيبوبة وفاقد الوعي، ونقلناه على وجه السرعة الى مستشفى مجاور، حيث لفظ أنفاسه الاخيرة فيها.
مات سلام!، لا أحد يصدق، حتى أنا كنت أحسب انها وعكة عابرة جاءته، سرعان ما تمر وتزول، الى أن جاء الاطباء الينا، يطلبون منا، القاء النظرة الاخيرة عليه، قبل تكفينه، وبصعوبة بالغة، استعدت توازني الذي اختل، وكدت أسقط مترنحاً من شدة الصدمة، وانا الذي كنت (أزامط) باني ثابت الجنان، عصي الدمع.
نسمة باردة
وراح سلام هكذا بهدوء وخفة، كأنه نسمة باردة مـــــرت بســـــرعة، وهــــو الذي كان يملأ الدنيا، بضحكاته المجلجلة، وصخــــبه العاصف، ونكاته التي كــــان يقهقه لها، قـــــبل أن يســــمع أصــــداءهــا من سامعــــيها. لا أدري.. هل أعزَي نفسي، أم أعزَي، رفيقة دربه وحبيبة قلبه، أم زمن، التي كان يحن اليها بصمت، وكان ينتظر قدومها بشوق، مع ابنته الوحيدة، وكان يفاخر في الحديث عن اصرارها عاى اكمال تحصيلها الجامعي برغم انها ربة بيت وأم أطفال، واذكر فرحته بتخرجها من الجامعة، ونحن في زيارة للقاهرة، عندما جذبني من ذراعي، وطلب مني أن ننزل الآن الآن وليس مساءً، الى ميدان الأوبرا، ليشتري لها فستاناَ ناصع البياض ترتديه في يوم تخرجها، أذكر سلام ونحن في استانبول، يتعجل الذهاب الى (يللوة)، للقاء أحفاده بعد انقطاع سنوات، أذكر سعادته وهو ينتظر بشغف ابنه معن وعروسه، اذكره وهو يهاتف علاوي ابنه الاصغر، بكلمات تحمل رقة وحناناً، واذكر اشفاقه على أهله واخوته وأقاربه، المُحب لهم والحاني عليهم.
آخ يا سلام، قطعت بنا، وعصرت قلوبنا، هكذا تغادرنا وتقسوا علينا، وانت الصديق والزميل والاخ العزيز، من يجلس الى يمين فؤادي بعد اليوم؟ ومن يُسكَن لوعتيي ويُهديء آلامي، وقد كثرت في هذه الأيام؟، من يصحبني في السهر حتى مطلع الفجر، من يشاركني في تناول الطعام والشراب، وايضاً الدخان الذي أقلعت عنه قبل ثلاثة أيام من رحيلك، ورحت تلقي على مسامعي المواعظ والفتاوى، في مضار التدخين وأمراضه، ولكن مع كل هذه الأحزان، فانا أحسدك، أي نعم أحسدك، لانك استقبلت الموت وانت مسترخ كأمير يتكيء على وسادته، لا انحناءة ظهر، ولا اصفرار وجه، ولا ارتجاف يدين، ولا تورم قدمين، ولا استغاثة أو طلب نجدة، فقد كنت كبيراً برغم غُربتك ووحدتك، وبُعد الأهل والاولاد عنك. يا الله غفرانك، انها ارادتك، ولا راد لها، استقدمت سلاماً الى جوارك، وهو يحتاج الى فيــض رحمتك، وسبحانك رب العالمين وأرحم الراحمين