دفوف البيضاني السحرية.. مراجعة نقدية لرواية رابعة العدوية
باسم عبد الحميد حمودي
....وقد فعلها عبد الستار البيضاني في السطور الاخيرة من روايته المثيرة للتساؤلات(دفوف رابعة العدوية)
صعد بالدف مثلما أنشد مظفر النواب:
حط أيدك بأيد الولف- وأصعد مراجف بالدف
أيام المزبن كضن- تكضن يا ايام اللف
نعم...لقد (لف ) البيضاني كل ما حوته الرواية من تساؤلات وأوجاع وتاريخ وفولكلور ومحن في ذلك المكان المتفرد...بيت (قبس )عازفة السنطور الجميلة وهي تبوح له بأسرارها وتكشف عن الجزء الأهم من تاريخ حياتها المعذبة وهي تعيش حالة العشق الجديدة مع من فك مغاليق رابعة عندما زارها وتعايش مع عالمها الصوفي الحزين الواله.
أن ذلك التماهي بين الخطوط الثلاثة, الواقعي والصوفي السريالي والفولكلوري –التاريخي الضائع أو يكاد,صنع منه عبد الستار البيضاني تجربته الجديدة الأخاذة التي تجمع الاقانيم الثلاثة وتصنع منها تلك اللوحة الدرامية المتفجرة التي كانت المعمار الفني ا(دفوف رابعة العدوية).
حط(وضع) عبد الستار يده بيد قبس عازفة السنطور الجميلة,وصعد معها نحو علياء الحقيقة ليضعنا أمام التفاصيل المؤلمة لحياة شاقة متفردة.
ويوم وضع يده بداية(ص20 وما تلاها) على موضوع (رابعة العدوية) ليتسلل منها اليها والى الحقيقة الماثلة فكريا وجسديا أمامه كان يتحرك معرفيا, يشده الوله الطاغي بها وبتاريخ رابعة.
هنا نجد البيضاني يحسن تقطيع الحدث ولا يضع التفاصيل سرديا في أناء واحد ,بل تجري الاحداث مجرى النهر المتعدد الفروع,لكنها فروع تعود من جديد –يا للغرابة وحسن التدبير – لتلتقي وسط جريا ن مبهر,وتلك ميزة هامة من ميزات هذا الروائي.
الوان العشق
وقد بحثت-وانا اقرا العلاقة بين قبس والراوي- في اصول الحب والوانه أن البطل قد وضع الجميلة (قبس) في محجر عينه دون أن ينساها- فوجدت ان الباحثين يقسمون الوان العشق الى : الهوى ثم الصبا ثم الشغف ثم الغرام ,وياتي بعد ذلك الحب الدائم ثم الهوى واخرها الأفتتان,فهل كان صاحبنا مفتونا؟ من الممكن أن يكون كذلك,لكن عالم النفس روبرت شتاينبرغ يرتب الوان الحب بشكل متصاعد على النحو التالي:
حب الصداقة- الحب المفتون- الحب الفارغ- الرومانسي- الحب المصاحب- الحب السخيف – الحب القاهر.
وقد وجدت في حبه لقبس لونا من الحب القاهر الذي لا يبرد لكنه يحاط بحيثيات المجتمع وضرورات خنق هذا الوله المتفجر لسبب أو لاخر.
كانت قبس تزيد من أشعال نار الجوى كأنثى غير مطواعة ,عالية الأستقلال قوية الأرادة ,والموقف في كراج فندق المنصور عندما وقف معها قرب سيارتها مودعا بعد قضائهما حفلا في مسرح الرشيد لايشي الا بالصراع غير الواضح بين رغبات الجسد ورغبات الروح...قالت له مودعة ومنشدة( يا يوم قولي لابويه آني أستحي منه ,زمت نهودي الصدر والثوب شكنه) ص26,وعندما حاول الحوار معها ن الشعر والحب قطعت الحديث وقالت(هاي بعدين تفهمها ...روح لاهلك) وحركت سيارتها وحيدة مبتعدة عنه وهو يبحث عن جسد سيجارته المكسورة حائرا بتلاعبها به,وقد عجز ن دقة معرفته بها.
قال له صديقه الدكتور عمار الذي حرضه على الدرس الجامعي زمن الحملة الأيمانية عن رابعة :((ليش لا...ترهم..اي والله ترهم شخصية دينية وصوفية معروفة)) وأضاف ضاحكا :(( رابعة مثل الطماطة ترهم على كل شي)) , هو هنا يتذكر عتاب قبس له عندما قالت له:(( كيف أنت بصراوي ولا تعرف رابعة العدوية)) لكنه يريد أن يعرف قبس عن طريق معرفته الأوثق برابعة صاحبة الدف المتصوفة بعد هذا.
بذلك تقدم لدراسة الماجستير في موضوع (رابعة) ليقترب أكثر من (قبس) ويفتح أوراق وفصول حياتها السالفة قبل أن تصل الى ماهي عليه من رفاه وثراء مادي ومعنوي.
في ذلك يقول أنه يريد أن يعرف الطريق الذي سلكته رابعة للوصول الى الله , وأنه(الان) غير متأكد من(ص84 ) أذ هو يعيش تحت ظلال نافذتين متقابلتين هما(نافذة رابعة ونافذة قبس عازفة السنطور,فهو لايعرف ويرى أحداهما الأ من خلال الثانية...يتداخل بين الحياتين الباذختين اللتين عرفتا الوله والحزن وعاشتا حياتين تختلفان تاريخا ومكانا لكنهما تتشابهان في الكثير.
وكان لابد له وهو يستكمل أوراق التقديم أن يحقق شهادة الرعوية,وهي شهادة أثبات عراقية أجداده , وهي قضية طلبتها سلطات النظام السابق من الطلبة للتأكد من عراقية أجدادهم !
كان ذلك يتطلب من البطل السفر الى البصرة والألتقاء بمن يعرف جده ليشهد على عراقيته,وكان ذلك طريقا للوصول الى قبر المتصوفة الوالهة..رابعة العدوية, والأنصات تاريخيا الى دفوفها عبرأيقاع الماضي المرتبط بالحاضر الأشد ولها وعشقا لقبس التي طلبت منه أن يزور قبر رابعة في مقبرة الحسن البصري وأن يجلب لها دفا من دفوف البصرة,
)الدف الذي كلنت تضرب عليه رابعة فتح لها طرق السماوات والارض... والسنطور الذي ضربت عليه قبس أيضا فتح لها الطرقات الى كل الدنيا) ص86 من الرواية, لكن طرقات قبس ذرائعية حياتية لا علاقة لها بالسماء .
كانت حركة البطل الدرامية وسط الرواية وهو يجول الزبير والفاو ومقبرة الحسن البصري تشكل نوعا من الشد والدخول في تفاصيل يتحرك داخلها في دهاليز غير اعتيادية لكل فرد ,ومنها رحلته بعد الخروج من المقبرة حيث موقع قبررابعة جوار مرقد الحسن البصري.
كانت قبس قد روت له جزءا من تحولاتها الحياتية وقد انتقلت وهي صبية من بيت زوج امها في الرصافة صباح العيد مع شقيقتيها الصغيرتين الى بيت خالتها الكرخ .
كان زوج الام قد طرد الفتيات من داره بعد خسارته المادية الكبيرة,لكن بيت الخالة الذي أحتوى البنات بالكرخ كان بيتا حانيا تماما,اذ استقبلتهم الخالة خير استقبال وهيأت لهم كل شيئ ودفعتهن للذهاب الى مدرستهن صباحا وكأن أمرا سيئا لم يحدث.
كان بيت الخالة هو مفتاح الحياة الجديد لقبس فقد عاشت فيه حياة جديدة تعرفت فيه على ام باسم مغنية القبول النسائي الذي عقدته يوما خالتها وشاركت هي فيه بالغناء وعمل الكورس لسيدة الطرب الجميلة التي لفتت انتباهتها وطلبت من خالتها أن تشاركها قبس في القبولات وحفلات العرس التي تحييها.
عالم جديد
وافقت الخالة ودخلت قبس عالما جديدا من الانس الشفيف وهي تدرس في المدرسة حتى أكملت المتوسطة ,لتقودها الى العالم الذي احبته ..الى المعهد الموسيقي الذي أتقنت فيه العزف على السنطور بديلا عن أي عمل آخر.
قادتها الفرقة الموسيقية التي أنتمت اليها الى أوربا لتعزف في محافلها ويكون ذلك هو المفاتح لشهرتها كعازفة مهمة كسبت الكثير من المال وعادت الى بغداد بعد فترة لتساعد شقيقتيها في السكن والزواج فيما اختارت هي الوحدة والاستقلال لتعيش حياتها الجديدة ملتصقة بسنطورها الذي احيا حياتها ويصديقها الراوي وهو يحاول الوصول الى حقيقتها القلقة امامه.
أحبها بجنون وهي تخاتله وأراد الحصول على الماجستير في (رابعة) ليعرف كنه هذه الوالهة التي لاتشبه سافو الغانية ولا ماريا كالاس في جنونها ولا رابعة المتبتلة ايضا.
هي أيقونة خاصة يكتشفها صاحبها العاشق بعد خوضه تجارب البصرة وحضوره حفلة ضرب الجلد المهيبة في بيت خفي من بيوت البصرة الموسيقية الذي تجري فيه الحفل المهيب الجميل بتقاليد اهل الوفا والحب والايمان بالموسيقى نذرا ووسيلة وخيرا..حيث الموسيقى عبادة .. من نوع آخر.
حين عاد الراوي العليم الى بغداد ألتقى بقبس وحدثها عن رحلته والدف الذي تمزق وحواره الأفتراضي مع رابعة ...عاد ممتلئا بالحب والخير وفهم الوله شرطا للحياة التي أدركتها قبس وعبرت عنها بذلك السلوك الطوعي المتطاول على الزمان لكنها اليوم تفتح أسرارها وتقود البطل الى بيتها المتفرد لتحكي له فصولا من حياتها التي وهبت للأخر كل شيئ الأ مكنونات فؤادها الذي تبوح به اليه وهو يسأل( أيهما أنت ؟) وهو يزاوج بين رابعة التاريخ والاثر الغارب ورابعة –قبس التي تعيش قربه مغنية(وهي تدري بهواها العمل بيه) لتعيش معه نشوة الحب الجسدي وطيات فصوله ..هذه المرة.
دفوف رابعة العدوية –الرواية تقدم لنا أكثر من لحن وأيقاع ونشوة ,وفي تفاصيلها المزيد الذي يحلل ويناقش .زذلك أنها عالم من سحر ومن تجربة فكرية –فولكلورية – اجتماعية يتختلط فيها الوهم بالحقيقة ويمتد فيها التاريخ الى واقع ثان صنعته الحياة الجديدة.
صعدت قبس بالدف الى عالم جديد وحطت يدها بيد (الولف ) الوامق الحساس المكتشف لعالمها المتكامل.