صغير يتسلّل من العلوة ليصغي إلى مغنين في مقهى مجاور
القبانجي يؤدّي المقامات الصعبة ويجدّد فيها ويبتكر
بابل - كاظـم بهيـّــه
على الرغم من مرور 33 عاما على رحيل عميد المغنين العرب في الارتجال الغنائي (المقام) محمد القبانجي فأنه مازال حاضرا باصالة فنه.. وفي موضوعنا هذا نتوقف عند ابرز محطات حياته الفنية:
محمد عبد الرزاق القبانجي(1904 - 1989) موهبة غنائية ساحرة يحفظ للمقام العراقي أصالته.. ولد في محلة سوق الغزل الشعبية ببغداد . نشأ وترعرع في كنف والديه ومنذ الوهلة الأولى اتجه ذلك الفتى الصغير إلى الغناء من خلال المقهى المجاورة إلى محل والده عندما كان يعمل معه في (العلوة) والتي كان تعج بأهل الغناء والطرب فأخذ ينتظرهم ويتابعهم عن كثب، فكان يصغي لهم عند مزاولتهم الغناء في تلك المقهى.
نبع اصيل
شغف ذلك الفتى واغترف من ذلك النبع الأصيل وبدأ مشواره وخطا خطواته بتأنيٍ مع مسيرة الغناء التراثي (المقامات العراقية) فكان فطنا وذكيا يستوعب كل ما يسمعه من ألحان وألفاظ، مما أخذت ذاكرته تحفظه عن ظهر قلب، فكان يقوم بتصحيح القصائد في ذلك الوقت للموهبة التي كان يمتلكها وكذلك لإتقانه اللغة العربية من خلال ولعه بالشعر العربي وعن ذلك يقول في احدى اللقاءات(كنت أصحح هذه الأخطاء، وكان ذلك مدعاة لدهشتهم فعلا، حتى استقر بهم الحال إلى دعوتي لمجالسهم محاولين الاستفادة من الذي أحفظه). حتى كان وجوده معهم يشجعهم ويحثهم على الاستمرار في الغناء.. وبعد تعلمه القراءة والكتابة على يد (الملالي) آنذاك ومن خلال تعلمه حفظ الآيات القرآنية، تفوق في تجويد الآيات من خلال نبرات صوته التي يملكها.. مما دفعه ذلك إلى الولوج في جادة الغناء أولا، ومن ثم تشجيع والده الذي يملك ذوقا ولكنه من محبي الموسيقى والغناء ثانيا، وخاصة المقام العراقي، مما جعله يغني ويطرب المغنين والمستمعين بصوته الرخيم فنال إعجابهم هذا يعود بالفضل إلى أساتذته الأوائل، كل من قدوري العيشة ومحمد الخياط والسيد الولي، الذي تعلم منهم الأداء في فن المقام وكذلك تأثره الأخير بمطرب مصر الكبير عبد الحي حلمي. حتى أصبح فنانا يشار له بالبنان ويقف بالموقع المتقدم بطريقته المتفردة والمتميزة عن غيره من مطربي المقام لقدرته الفذة وحفظه وأدائه للمقامات الصعبة وذلك لتجربته الطويلة في هذا الميدان حتى بقى الصوت المهيمن على خشبة المسرح الغنائي لسنوات طويلة: مما استرعى انتباه شركات التسجيل آنذاك ومنها شركة ألمانية، ومن خلالها قام بتسجيل جميع المقامات العراقية لقاء مبلغ بسيط جدا.
كان القبانجي من الفنانين المجددين والمبتكرين في مسيرة هذا الفن الأصيل فبدا بمرحلة الإبداع والتجديد والابتكار في عالمه وتجديد ديمومته، حيث ادخل إلى المقامات العراقية ، مقام اللامي وكذلك مقام القطر وبعض النغمات من مقام الإبراهيمي. وفي عام 1968 منح وسام (كومندوز) تثمينا للدور الذي لعبه في تشكيل الصيغة النهائية لمقام اللامي ، وكذلك لعب دورا في نقل بعض المقامات إلى مسامع الناس من محبي ومريدي هذا اللون من الغناء الأصيل مثل مقام الحجاز كار والكرد واللذين استخدما في بلدان غير العراق.
والقبانجي انطلق كفنان يحمل رسالة إنسانية عليه أن يحافظ على القيمة العليا والنهوض بالتراث الغنائي لوطنه وكان المدافع الأول عن هذا النوع من الفنون من خلال ترسيخه له ومحافظته على هذا اللون من الموروث الحضاري الراقي، من حيث تجديد ديمومته إلى مستواه اللائق كتراث موسيقي عربي أصيل.. ومن خلاله كان المطرب الكبير (القبانجي) يعبر عن الأحاسيس الإنسانية التي تواجهه في الواقع المعاش وعن هموم وتطلعات شعبه الاجتماعية والسياسية والوطنية: فكان بحق فنانا، وكانت المحافل التي تقام في تلك الحقبة تشهد له بذلك فقد لاقى من الحكومات المبادة ما لاقى من تعسف واعتقال عندما كان يؤدي أغانيه من خلال المقام ومهاجمته للاستعمار والرجعيين.