أمجد توفيق وصراع الحقوق الغائبة
باسم عبد الحميد حمودي
من منشورات الأتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق صدرت رواية الأستاذ أمجد توفيق الجديدة بعنوان (ينال).
رواية تستفز القارئ بتفاصيلها المشحونة بالعاطفة والخيال الجامح والشهوات وتقديم قسوة الأنسان تجاه الأنسان الآخر ضمن فصول الأيذاء والتعذيب بسبب وشاية ظالمة صنعت من المظلوم تاجر أسلحة!
كيف تم كل ذلك؟
لا يمكن عرض كل التفاصيل في مساحة ضيقة من الكلمات فالجهد الروائي المطروح في حدود 170 من الصفحات الممتلئة عاطفة والما وحبا وسريالية حركة لا يمكن عرضه ببساطة لكنني استطيع القول بثقة متناهية:
أن أمجد توفيق الروائي قدم رواية ناجحة بكل المقاييس الفنية والفكرية, فهي أولا رواية تشد القارئ دراميا وتجعله يتابع صفحاتها بدقة , حيث القدرة الاسلوبية التي تشد القارئ والحبكة التي صنعها المؤلف ووضع فصولها المترابطة التي تقوم على بناء نموذجين مختلفين يلتقيان داخل هذا العمل الفني الغني.
أحداث أساسية
النموذج الأول هو نموذج الأستاذ أبو فيصل – الراوي العليم – الذي كانت مهمته فك مغاليق الأحداث الأساسية التي أعترضت حياة(ينال) العراقي المقيم في باريس وأسبانيا والمغرب,وفي أي مكان تتطلبه مهنته الدموية...مهنة تاجر الأسلحة
والنموذج الثاني هو نموذج ذلك الانسان الذي تحول من مواطن أعتيادي يعمل من أجل كسب رزقه الى أنسان آخرمليئ بالقدرة على تقديم الخير لمن يشاء مثل(فتاة المرقص) و زميلة الدراسة (منال) وبيته وأسرته,وتوزيع الشرعلى الآخرين على شكل أسلحة تقدم كصفقات لمن يشاء ويدفع.
هو يقول في ص46:
(( كيف يفسد الأنسان؟ عندما يضعف الأمل بالعدالة,عندما يغيب القانون أويتلاشى فعله على الأرض...عندما يغيب العقد الأجتماعي ويجد الأنسان نفسه وحيدا في بيئة ظالمة))
ثم يستمر في تبرير عمله كتاجر سلاح بالسؤال:
(( هل هي غابة؟ بل هي أتعس من ذلك
مالحل؟
لا شيئ سوى قانون قوي عادل .
قانون لا يمنح أحدا حق الأعتراض عليه لأنه مصمم للجميع ويطبق على الجميع ))
أما القانون المصمم للتطبيق –في عرف ينال- فأنه لاستحق الحبر أو الورق الذي كتب عليه...ذلك انه محض قانون أحدب ذي عين واحدة.
هل كانت هذه العين هي عين السايكلوب الأحادية اليولسيسية؟ أم هي عين القوة الدامية وشهوة التسلط التي قادت السيد ينال مترجم التقارير الحاذق للوكالة التلفازية الى الخطف والتعذيب بسبب جريمة مفترضة يقول عنهافي ص49:
(( الأختطاف وما بعده وفرلي مساحة جديدة للرؤية,مساحة تنتقل فيها الفكرة الى حالة تثير الغرائز والحواس أن تنشط لتمنح العقل المغرورفرصة للفهم...ولم تكن الحالة العامة تسمح بأكثر من الأبتعاد))
وهو بهذا لاينكر رغبته في الأنتقام وخجله مما يجري في بلاده,لكن هذا الخجل الذي تحول الى لون من الحنان في مساعدة فرادى الناس ,تحول معه الأحساس بضرورة الأنتقام الى ولوج عالم تجارة السلاح بتأثير والد زوجته الوزير السابق في بلد عربي وتاجر السلاح المحترف الذي دربه للعمل في هذه المهنة الكثيرة المخاطر والكثيرة النفوذ والأموال والقدرة المتناهية على الأحسان لمن يستحق-في عرف ينال- والقسوة في من يسيئ للناس.
معادلة غريبة يملكها المال والقوة والأثنان يملكهما (ينال) الذي نجح في صناعة وهمه الخاص بالحياة الرغيدة بحيث نحت جبلا في منطقة قرب ماريبا الأسبانية ليكون جنائنه المعلقة الخاصة لزوجته وأبنته وكلبه.
يقول ابو الدكتور فيصل(وهو الراوي العليم الذي ينقل لنا مذكرات ينال) في ص56:
(الروائيون ليسوا مؤرخين والصدق لايعني سوى صدقهم الفني...لكن السيد ينال ليس كاتبا أو روائيا والرجل لايدعي لنفسه أي وصف....أتكون أوراقه خلاصة لجلسة أعتراف مع نفسه؟)
الروائي العليم –ربما هو أمجد توفيق ذاته- لايجد في ما كتبه السيد ينال أي ذنب! وربما وجدت مثله ذلك,لكن المعارك التي يخوضها أحيانا بسبب عمله الغريب تجعله في مصاف بنية أجتماعية أخرى , أذهو مثل ملاك ..يستطيع أن يعطي ويمنح ويسعد ألاخر وهو ايضا مثل شيطان.يستطيع أن يبيع اسلحة لمن يشاء ليقتل بها أو يهدد بالقتل أو يضطهد ..كما فعلوا به.
في ساحة الأسلحة في قصره ذو الطوابق الغريبة أجتمع بواحد من المجرمين الذين عذبوه وهجروه,لكن هذا الرجل لم يكتف بذلك بل سلب منه داره أيضا.
كان صراعه الداخلي مع ذاته(وقد جاء الرجل ليشتري اسلحة دون معرفة من يكون البائع) أن يقتله وينهي شيئا من الشروأو أن يبتزه ويهدده ... وهكذا فعل ينال ,جعله يدفع مقابل داره أضعافا ,لكن المبلغ الجديد كان أضافة الى مبلغ صفقة السلاح التي عقدها مع (ينال)!
ضمير جديد
هكذا لم يدفع المبتز شيئا ورضى ينال بلعبة القبول وهو يمضي وقته مع أبي فيصل.الأستاذ المتقاعد الذي صار كاهن أعترافاته ,بل ضميره الجديد.
تستمر فصول الرواية الشيقة لتكشف عن الحياة العريضة الجامحة التي يعيشها ينال خارج أسرته ,وعن علاقاته الواسعة بالمافيات وعن عطاياه الكريمة لمن يحتاج وسط تكوينه الشخصي كأنسان متعدد الوجوه والتصرفات ..حقق كل أحلامه حتى بات لا يشعر بعذوبة الحياة ..رغم رفاهيته..وعندما ينتحر ينال بعد أدراكه أنه مأزوم ومضطهد داخليا يكون قد رتب لاسرته كل خير وورتب لضميره الجديد –راوي حكايته,عملا مثمرا في مؤسسة تربوية يقوم بأدارتها وبيده حقوق التصرف المادية.
أتم ينال رسالته في الحياة مختارا وراح الى العالم الأخر بعد أدراكه أن من الخير أن ينسحب من الحياة بيده قبل أن تقتله أرادة أخرى..
في ذلك يقول الراوي العليم مختتما الرواية:
((يا ينال
الصقور والنسور والشواهين تحلق عاليا
لكنها أبدا تحط على صخرة أو شجرة أو مرتفع
وأدرك أنك حلقت عاليابجناح واحد مفرد
ولانه كذلك,أخذتك الدوامة
فأرقد بسلام
ولتهدأ جمرة أسئلتك
فظلام القبر ماء))
ماذا كان موت ينال هنا؟ يقول أمجد توفيق الروائي الكبير أنه بحث عن معنى غير مكرر وأباح لينال أن يجرب تنفيذ وأحدا من الحقوق الغائبة التي لا يقرها البشر... حق التناقض مع الآخر وحق الأنتحار.
وهو صادق فيما هدف اليه دراميا وباحث حساس عن معنى جديد للحياة والموات.
لكن موت ينال محض أجابة عملية عن حياة معذبة رغم أطارها الخارجي البهي,وتلك واحدة من ميزات هذا العمل الكبير المبدع الذي صنعه لنا أمجد توفيق وقدمه ليضعنا في دوامة أسئلة جديدة عن المتضادات.. الحياة والموت . السعادة والألم . الظلم والقسوة وفعل الخير...الخ في متوالية هندسية تسبب الشجن والحزن والتفكير في جمرة الخير والعطاء.