العلامة عبد الحميد العبيدي في عيون طلبته
موسوعة فقهية متحركة صارت مقصداً عراقياً وعربياً
عمر علي حيدر
من الصعب أن يتكلم طالب عن أستاذه، فشهادته حتماً مجروحة (مع سبق الإصرار والترصد)، وهذه هي الحال بالضبط مع ما أود أن اكتبه في حق استاذي الكبير العلامة الراحل د. عبد الحميد العبيدي رحمه الله تعالى وغفر لنا وله، فإنه لم يكن معلماً فقط، كان أباً مربياً عطوفاً، نهلنا الأكثر من علمه، وعلَّمنا الكثير بسلوكه لا لسانه، وثباته واتزانه.
التدريسي
قبل نحو 28 عاماً، وتحديداً في العام الدراسي (1994-1995م)، كانت المرة الأولى التي نراه في كلية العلوم الإسلامية بجامعة بغداد، قامة مربوعة، بدن منتصب، يخلو وجهه من اللحية، ورأسه من العمامة، وبدنه من الجبة، ويداه من المسبحة!، هي الصورة نفسها التي رآها العراقيون والعرب لاحقاً وهم يتابعون برامجه بشغف.
درسنا على يديه مادتين: الفقه المقارن وأحكام التلاوة، يفاجئك إذا تلا القرآن الكريم أمامك، صوت شغوف ينبعث من أعماق النفس، وطريقة في الأداء قلما تجدها عند أحد، وصوت رخيم يتجاوز حدود السمع فيلامس شغاف القلوب، وكأنك تستمع إلى رجل من الزمان الأول، حيث كان القرآن لا يزال يتنزل طرياً في بواكير البعثة النبوية الشريفة.
كنا في أغلب الأحيان، ولسهولة درس أحكام التلاوة نفتعل أسئلة فقهية كي يتحول درسنا إلى الفقه، فقد كان رحمه الله تعالى إذا تكلم في الفقه لا يوقفه أي شيء وإن كان جرس نهاية الحصة، حافظة عجيبة، وذاكرة رهيبة، نجلس وكأـن على رؤوسنا الطير وهو يتدفق فوراً بمعلومات كالسيل الهادر، ويحيط بأي موضوع فقهي من جميع جوانبه، وبمختلف أقواله ومن قالها، ومن أي المصادر كانت، فقه، لغة، أصول، عقائد، حديث، وما أذكر -والله- أننا سألناه يوماً عن شيء وتردد، أو تلكأ، أو قال: أجيبكم بوقت لاحق!
كنا نتهامس في الكلية، لماذا لا يزال شيخنا العبيدي من دون دكتوراه إلى الآن في حين يتخرج سنوياً في الكلية المئات ممن هم دونه في العلمية والكفاءة؟، بل كيف يعقل أن يشرف ويترأس لجان مناقشات الماجستير والدكتوراه في حين أنه لا يزال يحمل الماجستير فقط؟، أما هو فلم يتحدث بهذا الموضوع أمامنا مطلقاً، ولم يُلَمِّح، بل ولم يومئ حتى ولو مجرد إيماءة، وكان يتعامل مع هذا الأمر وكأن شيئاً لم يكن!.
حدثنا العارفون ببواطن الأمور -آنذاك- أن مسؤولاً رفيعاً في حكومة ما قبل 2003 كان يحول من دون حصوله على الدكتوراه نتيجة مواقف شيخنا الذي كان يربأ بنفسه عن التزلف والتقرب لتحقيق مصلحة شخصية مهما كانت حتى جمعه بالرئيس الراحل صدام حسين لقاء وإذا به يناديه بـ (حضرة الدكتور) فقيل له: إنه لا يزال من دون الدكتوراه، ووسط استغرابه الذي لم يدم طويلاً أمر بأن يسمح له بحمل تلك الشهادة!
احاديث متنوعة
في حدود الشهر السادس من العام 2004 التقيت بشيخنا العلامة البروفيسور خالد رشيد الجميلي، ودارت أحاديث منوعة بصراحة لم تكن معهود قبل 2003? ثم جاء ذكر العلامة العبيدي فقال الجميلي بالحرف الواحد: لقد جاءني توجيه بأن أشرف على رسالة الدكتوراه الخاصة بالعبيدي، وكانت التعليمات واضحة أن يتم منحه إياها.
الإعلامي
كنت أقول في نفسي، لم لا يظهر شيخنا العبيدي على شاشة التلفاز كي تعم فائدته بين الناس، ويزداد حبهم للحق، والحلال، والخلق الرفيع؟، ولم يكن شيخنا آنذاك -قبل العام 1998- ظاهراً على الساحة الإعلامية، ثم بدأت بوادر ذلك الظهور من خلال جلسات عامة مفتوحة تناقش أموراً عدة، وباختصار، يمكن القول أن شيخنا العبيدي ظهر على شاشة التلفاز عبر البرامج الآتية:
1. (حوار في الشريعة) على تلفزيون بغداد.
2. (ساعة إفتاء) على قناة الرافدين
3. (يسألون عن النبي ص) على قناة السلام عليك أيها النبي.
واستضيف على برامج شاشات الكثير من القنوات الفضائية، أقدمها برنامج (آراء مختلفة) الذي كان يعرض على تلفزيون بغداد بحدود العام 1997-1999? وهو من تقديم الطبيبة د. بلسم عبد الكريم، ونوقشت فيه الكثير من قضايا الأسرة والمجتمع بحضور أساتذة من اختصاصات مختلفة، وكان برنامجاً متميزاً لم نعد نرى مثله الكثير في أيامنا هذه!.
برع شيخنا العلامة العبيدي في ظهوره الإعلامي أيما براعة، واستحوذ على اهتمام المشاهدين، وخلال مدة قصيرة، صار مقصداً للمستفتين من أنحاء العراق كافة، وصارت كلية العلوم الإسلامية ملجأ للكثير من الشخصيات المهمة وغيرها، من التي لم تشأ عرض استفتاءاتها على الملأ في أمورها الخاصة، فكانت تجد في المجيء للكلية بغيتها، كما قصده الكثير من أتباع الديانات المختلفة للإستفتاء في أمور عدة، وكان يتمتع بحضور وتكريم كبيرين، وأتذكر كيف كانت حفاوة الصابئة المندائيين كبيرة به في حفل إطلاق كتابهم الكنزاربا، كنت مدعواً هناك أيضاً، وقد حاول شيخنا العبيدي بكل تواضع الجلوس في المقاعد المتأخرة حيث المكان الذي دخل منه إلى القاعة، ولكن القائمين على الحفل أخذوا بيده نحو مقاعد البداية مع شيخنا العلامة جلال الحنفي البغدادي رحم الله تعالى الجميع.
ومنذ ظهوره الإعلامي صارت مسألة توفير الوقت اللازم لأي شيء مستحيلة بالنسبة لشيخنا العبيدي، فقد طُلِبَ حتى من قبل أعلى المستويات الرسمية، وكانت الناس تسأله في الكلية، الشارع، البيت، الجوامع، المنتديات، الملتقيات، الصحف والمجلات، الإذاعة والتلفاز، ومن مواقفي الطريفة في ذلك، أني أجريت معه حواراً صحفياً وهو في خضم إجراء الإمتحانات النهائية لطلبته في الكلية، فقال لي مبتسماً قبل الإجابات: (لأول مرة أشوف امتحان لشخص يجري امتحانات، ولله تعالى في خلقه شؤون!).
قلت له: اسمح لي أن أكتب لقب (العلامة) قبل اسمكم الكريم، فرفض، وقال: (ابني عمر، لا أريد أي لقب، يشرفني أن أكون مجرد تدريسي في كلية الشريعة)!. وكان يكرر دائماً: (أنا لا أضع نفسي في خانة العلماء).
الفقيه
لا آتي بجديد إن قلت إن شيخنا العبيدي كان موسوعة فقهية متحركة تمشي على رجلين، وكان مع ما يحمله من ذوق ولطف وخلق يعكس صفة العالم الرباني العامل. كان واسع الإطلاع قبل مرحلة الحواسيب والشبكة العنكبوتية، وكان يحيط بالعجائب والغرائب والنوادر من الأسئلة التي يصعب أن تجد أجوبتها في بطون الكتب. كان يقول باستمرار أن المجالس مدارس، وأن العلم لا يتأتى من الكتاب فقط.
يقول دفتري القديم: سأله المذيع الراحل جودت كاظم عزيز رحمه الله تعالى -خلال ندوة تلفزيونية أقامها تلفزيون بغداد، بحضور أستاذنا د. زياد العاني أستاذ تفسير علم الحديث بكلية العلوم الإسلامية جامعة بغداد في يوم الثلاثاء 14 من نيسان عام 1998: هل صحيح ان القرآن اجتمع في الحرف (باء)؟.
لم يشأ شيخنا العبيدي أن يقول أن هذا القول لا أصل له ويختم جواب السؤال من أساسه، لكنه أجاب قائلا: هذا القول مبناه على أن القرآن اجتمع في الفاتحة، والفاتحة اجتمعت بـ (بسم الله الرحمن الرحيم)، وبسم الله مجموع في (الباء)، فالقرآن بناء على ذلك مجموع في حرف الباء، وهذا القول لا أصل له!.
دفتر ملاحظات
وهذا المسألة من المسائل الغريبة التي أجاب عليها، والتي لن يجد القارئ جوابها لا في كتاب ولا في الشبكة العنكبوتية عن بكرة أبيها، ولولا أني دونتها في دفتر ملاحظاتي سماعاً مباشراً من التلفاز قبل 24 عاماً من الآن ما تذكرت جوابها.
الموصي
من نافلة القول التطرق إلى عدد من الوصايا التي حرص شيخنا العلامة العبيدي على إيصالها لطلابه، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
(أوصيك بالناس خيراً، وإذا جاءك من يستفتيك بأمر فضع نفسك مكانه، ثم ارحم بحاله، خفف عليه وشدد على نفسك، ستجد أن الله تعالى يؤيدك للصواب، ويفتح أمامك المزيد من أبواب المعرفة).
(ستتخرجون شيوخاً في الجوامع، أو معلمين للتربية الإسلامية، ستنظر إليكم الناس نظرة مهابة وإجلال، إياكم أن يبدر منكم ما يقلل من هذه النظرة، إياكم ثم إياكم أن تكونوا سبباً في تشويه سمعة الدين، وكره الناس له، ولعباد الله الصالحين).
(العراق كان وسيبقى مهد العلم، ومهبط أولى الرسالات، على أرضه مشى خير الناس، وبين رحابه كتبت أروع الكتب العلمية، لا تضيعوا العراق فتضيعوا، وليكن نصب أعينكم عندما تفتون وتستفتون).
(اختاروا المتفق عليه، وابتعدوا عن المختلف فيه، ديننا أوسع من أن يحصر بعالِم، أو بمذهب، أو ببلد، ديننا دين البشرية والناس جمعاء).
(العلم مهم، لكن الأخلاق أهم، أطلبوا الأخلاق أكثر من طلب العلم، ما مدح ربكم رسوله بصفة أكرم من الخلق العظيم).
من صفاته
(كان مع تساهله لا يتساهل ويحذر من مسائل مثل: توريث الذكور وترك الإناث، الإعتداء على الأموال العامة).
كان يشمئز من: (استعراض العضلات على المنابر، الجلوس لتعليم الناس في الجوامع بغير علم، التطرف والتشدد في طرح الآراء).
(وضع خطاً فاصلاً بين ما يظنه الناس مظهراً للدين، مبيناً أن الدين لا يحتاج إلى جبة، والورع إلى عمامة، والتقوى إلى مسبحة، بل يحتاج إلى عبادة على بصيرة، وحسن سلوك وسيرة).
(لم يدعُ لحاكم أو يُحرِّض عليه، ولم يمشِ لمسؤول أو يتزلف إليه، بل كان الكل يخطب وده، ويتمنون أن يطلب فيحققون مراده).
محبة كبيرة
لشيخنا العلامة العبيدي محبة كبيرة في قلوب المريدين من أصحاب وطلاب، والمتابعين من مهتمين ومشاهدين، وقد وجدت من الضرورة ذكرها لتكون طريقاً نرسمه لكل من يسعى ليخلد في نفوس الناس، متربعاً على قلوبهم بالثناء ولسان الصدق في الآخرين.ومن خلال تحليل الكثير من دروسه التي شهدناها، واقواله وصفاته، وبرامجه التي اطل منها على المشاهدين يمكن تلخيض سر محبة الناس له فيما يأتي:
منهجه الوسطي الذي سار فيه بكل نجاح بين الغلو والتفريط.
الوعي الكبير بقضايا العصر المختلفة.
الإلمام الكامل بكل جوانب الإستفتاءات المعروضة عليه.
حسن الطرح والقدرة الفائقة في مخاطبة مختلف أنواع العقول، وإيصال أعقد المعلومات لذوي الأفهام البسيطة.
تقديره الكبير لدور المرأة، والحث الدائم على مراعاتها وتقدير ذاتها والحرص على حمايتها وعدم هضم حقوقها.عدم الجمود على أجوبة الفتاوى القديمة، والإنطلاق من روح الفقه المتجدد في الحكم على المسائل الجديدة بما يناسبها من قواعد واصول، وإيجاد حلول، وتسهيل وصول.
نقطة مهمة: التعامل مع القضايا (المذهبية الخلافية) في الظهور الإعلامي بمنتهى الحكمة، وذلك بأداء الرسالة على وجهها الأكمل من خلال رفع مبدأ وحدة البلد على كل المسميات والمقاصد والأغراض.
النقطة المهمة الأخرى: كان شيخنا العبيدي أكاديمياً وخطيباً وإعلامياً، وكان يعطي لكل نمط رونقه الخاص حتى يجبر الجميع على الإنصات له حتى ينتهي، ولم يكن يخلط بين هذه الصفات، بل يعطي لكل واحدة ما تستحق، وكان يردد (لكل مقام مقال)، وهي مشكلة لم يستطيع الكثير من المتحدثين التفريق بينها، وكثيراً ما تمنى المتابعون من طلبة ومصلين ومشاهدين أن يستمر في حديثه لينتفعوا أكثر، لكنه كان فقيهاً بعلم، يعلم أن للموعظة وإن طابت طعماً ورونقاً، وهدفاً ووقتاً.وأخيرا.. لا يسعني في ختام مقالي هذا إلا أن أتمثل بقول من قال. أولئك (أشياخي) فجئني بمثلهم... إذا جمعتنا يا جرير المجامعآجرنا الله تعالى في مصيبتنا وأخلف لنا خيراً منها، ورحم الله شيخنا واستاذنا العلامة الكبير د. عبد الحميد العبيدي، وإنا لله وإنا إليه راجعون...