تيمور الكردي وصفية السماوية
عدنان سمير دهيرب
المنازعات السياسية والمصالح الحزبية والمغانم الشخصية في الغالب تجرح بل تغتال التعايش في البيئات الرخوة والمأزومة .
وتحصل المعضلات بين الفينة والاخرى لتحقيق مأرب وأهداف للهيمنة والتأثير على الافراد والاندماج المجتمعي الذي يتحقق بالسلام والوئام الذي يسود حيناً ويتراجع احياناً جراء تلك الصراعات الداخلية واستثمارها بالتدخل خارجياً .
والخلاف الذي حدث خلال الايام الماضية بين الاحزاب في اقليم كوردستان وأخرى في بغداد , وما تبعها من تصريحات , إذ أخذت عدد من وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي بإيقاد إعواد من الثقاب , ليس لإضاءة مساحة السلام , وإنما بإشعال المزيد من الحرائق , بإطلاق التصريحات التي تعمد الى حرث وتعميق الخلافات السياسية التي حصلت خلال السنوات الماضية , كلمات ليس لتعزيز نداءات الوئام وسقي واحات المحبة المستقرة انسانياً في دواخل ابناء المجتمع وانما لإشاعة الكراهية بينهم .
في هذا الفضاء المشحون بالجعجعة والمهاترات تذكرت حكاية السيدة صفية مارد التي حدثتني قبل بضعة اعوام عن حكاية تيمور الطفل الكوردي الذي نجا من عملية بشعة وقعت في عام 1986 في بادية السماوة . يوم ابيدت عوائل كردية كاملة واستقرت جثثها وسط خنادق طويلة شقت لتغدو مقابراً وتضيف نقاءاً وحناءا الى الارض , لتكتب بذلك صفحة اخرى من صفحات الظلم والقتل والعذاب. ففي مساء احد الايام سمع البدو القاطنون بالقرب من موقع الجريمة اصوات محركات سيارات وجرافات ثم أزيز رصاص وصوت صراخ متقطع يتلاشى في المدى. وقد ظن أولئك البدو البسطاء ان الامر يتعلق بتدريب للجيش أو ما شابه مبتعدين بأنفسهم عن مغبة الاستطلاع الذي يقود الى التهـــلكة .
ليل الصحراء
وبعد ان خيم الصمت على الفضاء , صمت بدا أثقل من ليل الصحراء المحيط بالبدو الذين سمعوا صوت بكاء طفل بعد ساعة من انتهاء الضجيج . نادت (ام دليل ) ولدها وطلبت منه ان يرافقها، ثم هرع الجميع يركض نحو الشاهد الجريح على الجريمة المروعة , دماء تنزف وقلب يرتعد من شدة الخوف وجسد ناحل مصاب برصاصة اخترقت كتفه الايمن واخرى ازاحت الجلد واللحم بجانب العمود الفقري .كان يرتدي زياً كردياً , ذلك الطفل الذكي الذي أقتفى آثار الاغنام العائدة ليجعل الله تعالى منه شاهداً على دفن الاحياء من ابناء شعبه في زمن الرعب والجنون. وجدوا الطفل يبكي وينادي (ماما ... ماما ) وحين سألوه لم يفهموا شيئاً من كلماته لأنه كان يتحدث الكردية فقام بوصف الحالة بحركة من يديه في إشارة للبنادق والشفل الذي دفـــن العوائل الكردية .
أصم آبكم
كان لا بد من نقل الطفل البالغ من العمر ستة اعوام الى مدينة السماوة التي تبعد 120 كم والطفل مازال يئن ويتألم وينزف رغم العلاج البدائي .
اذ بادر فليح سفاح الى احتضان الطفل في داره الواقعة في حي المعلمين بالسماوة , فيما قامت زوجته صفية مارد برعايته .
وقد أبلغوا الطفل بالاشارة بعدم التكلم ابداً مع أي انسان ليظهر امام الناس على أنه أصم وأبكم . وقام خطيب ابنتها منشد سوادي - معاون طبيب - بمعالجة الطفل بجلب الادوية والضمادات اليه وأضح لها كيفية معالجته ونوعية الادوية عند غيابه عنهم .
وظلت السيدة صفية كل يوم تلتقط الحصى الناعم والرمال من الجروح بواسطة ملقط . وكان علي وهو الاسم الذي اطلق على الطفل تيمور عبدالله الذي يرفض لبس الملابس الملونة ويرتدي الملابس السوداء فقط , ينزوي دائماً في أحد اماكن البيت الخالية ليبكي . فيما قامت ابنتها وهي مدرسة حاسبات بتعليمه اللغة العربية . وبعد عامين من العذاب والقلق والخوف التأمت جراحه , وقد تعلم اللغة العربية مما مكنه من شرح ما جرى له ولعائلته .
وقال ان عسكريين ومدنيين تابعين لصدام قاموا بجلب اعداد كثيرة من العوائل من منطقة سرقلة شمالي كركوك بواسطة سيارات كبيرة ليس لها منفذ , وحين وصلت العوائل وجدت شقاً طويلا محفوراً في الارض وشفلاً وسيارة حوضية .
وشاهد كيف وضعت العوائل عنوة في الشق لتدفن مرة واحدة ، قام الشفل برمي التراب فوقها . بعدها جاءت السيارة الحوضية لترش الماء فوق التراب .
وفي لحظة القتل الجماعي والرمي المركز والعشوائي دفعه الشفل بعد تلك العملية الاجرامية ، وتحت جنح الظلام هرب لمسافة قليلة بجانب أحد التلال القريبة ونظر كيف قتلت أمه امام ناظريه وشقيقاته الثلاثة وكانت أحداهن ما زالت رضيعة ، أما الثانية والثالثة في اعمار 3 – 5 اعوام , ويحتفظ تيمور بوثائق سلمه اياها والده الذي أعدم قبله في مكان ووقت آخر .
وفي عام 1991 واستنادا الى الوثائق التي كانت لديه ذهب ال فليح سفاح للبحث عن اقاربه في الشمال اثناء انتفاضة الشعب لاعتقادهم ان صدام قد سقط ، وجاء معهم عمه وجده والد أمه ، فوضعت السيدة صفية ، تيمور الذي أصبح يبلغ من العمر 12 عاماً بين مجموعة من الاطفال لتتأكد من مصداقية أقربائه الذين تعرفوا عليه بسهولة بالرغم من مرمور ستة اعوام وبعد عودة نظام صدام وفشل الانتفاضة قتل ازلام النظام البائد عمه واولاد عمه . فهرب تيمور الى ايران برفقة رجل كردي كبير يعرف بالمسالك والدروب التي أدت الى خلاصه . منظمة اسلامية
ومن ايران انتقل الى السعودية ومن هناك عن طريق منظمة انسانية نقل الى ولاية فرجينيا حيث يعيش الان في الولايات المتحدة الامريكية , وكان من وفائه لعائلة السيد فليح سفاح أن قام بتسهيل مهمة لجوء عدد من افراد العائلة وتأمين سفرهم لأمريكا ايضا .
هذه حكاية من الحكايات الواقعية تجسد انسانية العراقي في زمن الجنون بعيداً عن السياسة وشهوة السلطة ,هذه بذرة محبة نمت لتغدو شاهداً على موبقات زمن ولى من جهة والتسامح والروح الانسانية النبيلة من جهة اخرى . فيما زال للآن مَن يسعى لنشر الكراهية مستغلاً وسائل الاعلام متعدد الخطابات والمآرب التي أسهمت بإشـــــاعة الاضطراب والتمزق في بلد لم يتعظ ســــــــــاسته من تجارب تأريخه المعاصر الغارق بالصراعات الحزبية .