حينما تدلهم الخطوب، وتنقبض الصدور، يهرع العرب دونما وعي منهم إلى مناشدة أشقائهم الأقربين، معولين على انتمائهم القومي، ونخوتهم العربية، فليس مثل الملمات شيء يعيد إلى الذاكرة الوشائج الحميمة التي أصابها الوهن بمرور السنين بين أخوة العقيدة واللغة والتاريخ.
بل إن البعض لا يفتأ يعيب على أبناء جلدته انصرافهم إلى شؤونهم الخاصة، وإهمالهم ما يتعرض له هو من آلام، ولا يفوته أن يذكرهم أن الدور سيأتي عليهم إن هم تقاعسوا عن نصرته في الوقت المناسب، فهو يدرك أن المصير المشترك حقيقة واقعة، وما يقع اليوم على بلد سيقع على غيره لا محالة.
إن هذا الخطاب الموشح باللوعة والحزن، يبرز وقت الأزمات، ويتصاعد حينما تشتد الكروب، وهو أمر عادي جداً، ولا غبار عليه بالمرة، فعند الشدائد تعرف الإخوان، ولا يجد المرء بداً من الالتجاء حينها إلى أقرب الناس لديه، وهذا في رأيي دليل ساطع على وجود شيء اسمه الوحدة، مايزال حاضراً في النفوس، ماثلاً في القلوب، وهو يظهر بجلاء حينما يشعر العرب بالخطر الخارجي الوشيك.
غير أن هذا الشعور سرعان ما يضعف وقت الرخاء، ويتلاشى حينما تنفرج الأمور، ويشعر الناس بالاستغناء عن الغير،أو أنهم لا يجدون في أنفسهم الحاجة إلى عون، فيحتفظون بأموالهم في خزائنهم الخاصة، ويدخرونها للأيام السود، ولا يتوانون عن إغلاق الحدود بوجه الأهل والجيران.
وأخشى أن أقول أن البلدان الغنية تبدأ بالنظر بعين الاستخ فاف إلى شقيقاتها الفقيرات، وترى أن هناك فارقاً حضارياً يحد من العلاقات المعتادة معها، فليس لدى الفقراء ما يقدمونه غير البؤس والجوع، والعوز والتخلف، وغير ذلك من ألوان الشقاء التي غادرتها منذ سنوات طويلة، وهي لم تعد تفكر فيها، أو تتخوف من عودتها، ولا ترغب أن تتعامل معها من جديد.
وفي ذات الوقت فإن الدول الغنية هذه تقيم علاقات جيدة مع بعضها البعض، وتتبادل معها التسهيلات التجارية والاقتصادية، فمجتمع الأغنياء يمارس نوعاً من (الوحدة) داخل أقطاره، حتى لو كان بأبسط صورة، ويشعر أعضاؤه بالإلفة مع زملاء الثروة والجاه العريض، أما ما سواهم فهم من عالم، وهم من عالم ثان.
ربما تعطي هذه الصورة، التي لا تخلو من ظاهرة (التمايز الطبقي)، انطباعاً عن المزاج العربي العام، فهو يعاني من القلق والخوف وعدم الاستقرار، وإذا ما قيض له أن يعيش حقبة ما، بعيداً عن هذه المشكلات، فسيفكر جدياً في التحالفر أي أن التنمية الحقيقية المبنية على قيم العمل والإنتاج ستؤدي إلى تقريب المسافات، وربما تقود إلى خطوات جدية مثل فتح الحدود، والتكامل الاقتصادي، وبناء الثقة، وغير ذلك كثير، لكن هذا النوع من المودة لا يقوم بين فقراء وأغنياء، أو معدمين وميسورين.
قد لا نستطيع الحكم الآن في ما إذا كنا قادرين على الانضمام لمجتمع الأغنياء هذا، وإزاحة العقبة الكأداء التي تحول دون التفكير في وحدة مجتمعاتنا، وإزالة الفوارق الطبقية بينها، بوجود أعداء تاريخيين لا يريدون لها ذلك، لكن مثل هذه التنمية ستستغرق وقتاً طويلاً إذا لم يكن ثمة أخ أو صديق يمد لنا يد العون، أو يخفف عنا بعض العبء.
إن معادلة التنمية التي تقود إلى الوحدة ربما تكون واحدة من الخيارات الأساسية التي سيفكر فيها أشخاص ملهمون في المستقبل، وهو ما يعني أن فكرة الوحدة تتجدد باستمرار، أما اليأس منها، أو التقليل من شأنها، أو وضع اشتراطات عنصرية أو سياسية عليها، فستنتهي حالما يشعر الجميع أن الطريق إلى هذا الهدف، ممهدة تماماً.