الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
مجتمع‭ ‬الأغنياء‭  ‬

بواسطة azzaman

مجتمع‭ ‬الأغنياء‭  ‬

محمد زكي ابراهيم

 

حينما‭ ‬تدلهم‭ ‬الخطوب،‭ ‬وتنقبض‭ ‬الصدور،‭ ‬يهرع‭ ‬العرب‭ ‬دونما‭ ‬وعي‭ ‬منهم‭ ‬إلى‭ ‬مناشدة‭ ‬أشقائهم‭ ‬الأقربين،‭ ‬معولين‭ ‬على‭ ‬انتمائهم‭ ‬القومي،‭ ‬ونخوتهم‭ ‬العربية،‭ ‬فليس‭ ‬مثل‭ ‬الملمات‭ ‬شيء‭ ‬يعيد‭ ‬إلى‭ ‬الذاكرة‭ ‬الوشائج‭ ‬الحميمة‭ ‬التي‭ ‬أصابها‭ ‬الوهن‭ ‬بمرور‭ ‬السنين‭ ‬بين‭ ‬أخوة‭ ‬العقيدة‭ ‬واللغة‭ ‬والتاريخ‭.‬

‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬البعض‭ ‬لا‭ ‬يفتأ‭ ‬يعيب‭ ‬على‭ ‬أبناء‭ ‬جلدته‭ ‬انصرافهم‭ ‬إلى‭ ‬شؤونهم‭ ‬الخاصة،‭ ‬وإهمالهم‭ ‬ما‭ ‬يتعرض‭ ‬له‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬آلام،‭ ‬ولا‭ ‬يفوته‭ ‬أن‭ ‬يذكرهم‭ ‬أن‭ ‬الدور‭ ‬سيأتي‭ ‬عليهم‭ ‬إن‭ ‬هم‭ ‬تقاعسوا‭ ‬عن‭ ‬نصرته‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬المناسب،‭ ‬فهو‭ ‬يدرك‭ ‬أن‭ ‬المصير‭ ‬المشترك‭ ‬حقيقة‭ ‬واقعة،‭ ‬وما‭ ‬يقع‭ ‬اليوم‭ ‬على‭ ‬بلد‭ ‬سيقع‭ ‬على‭ ‬غيره‭ ‬لا‭ ‬محالة‭.   ‬

‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬الخطاب‭ ‬الموشح‭ ‬باللوعة‭ ‬والحزن،‭ ‬يبرز‭ ‬وقت‭ ‬الأزمات،‭ ‬ويتصاعد‭ ‬حينما‭ ‬تشتد‭ ‬الكروب،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬عادي‭ ‬جداً،‭ ‬ولا‭ ‬غبار‭ ‬عليه‭ ‬بالمرة،‭ ‬فعند‭ ‬الشدائد‭ ‬تعرف‭ ‬الإخوان،‭ ‬ولا‭ ‬يجد‭ ‬المرء‭ ‬بداً‭ ‬من‭ ‬الالتجاء‭ ‬حينها‭ ‬إلى‭ ‬أقرب‭ ‬الناس‭ ‬لديه،‭ ‬وهذا‭ ‬في‭ ‬رأيي‭ ‬دليل‭ ‬ساطع‭ ‬على‭ ‬وجود‭ ‬شيء‭ ‬اسمه‭ ‬الوحدة،‭ ‬مايزال‭ ‬حاضراً‭ ‬في‭ ‬النفوس،‭ ‬ماثلاً‭ ‬في‭ ‬القلوب،‭ ‬وهو‭ ‬يظهر‭ ‬بجلاء‭ ‬حينما‭ ‬يشعر‭ ‬العرب‭ ‬بالخطر‭ ‬الخارجي‭ ‬الوشيك‭.‬

‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الشعور‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬يضعف‭ ‬وقت‭ ‬الرخاء،‭ ‬ويتلاشى‭ ‬حينما‭ ‬تنفرج‭ ‬الأمور،‭ ‬ويشعر‭ ‬الناس‭ ‬بالاستغناء‭ ‬عن‭ ‬الغير،أو‭ ‬أنهم‭ ‬لا‭ ‬يجدون‭ ‬في‭ ‬أنفسهم‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬عون،‭ ‬فيحتفظون‭ ‬بأموالهم‭ ‬في‭ ‬خزائنهم‭ ‬الخاصة،‭ ‬ويدخرونها‭ ‬للأيام‭ ‬السود،‭ ‬ولا‭ ‬يتوانون‭ ‬عن‭ ‬إغلاق‭ ‬الحدود‭ ‬بوجه‭ ‬الأهل‭ ‬والجيران‭.‬

وأخشى‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬أن‭ ‬البلدان‭ ‬الغنية‭ ‬تبدأ‭ ‬بالنظر‭ ‬بعين‭ ‬الاستخ‭ ‬فاف‭ ‬إلى‭ ‬شقيقاتها‭ ‬الفقيرات،‭ ‬وترى‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬فارقاً‭ ‬حضارياً‭ ‬يحد‭ ‬من‭ ‬العلاقات‭ ‬المعتادة‭ ‬معها،‭ ‬فليس‭ ‬لدى‭ ‬الفقراء‭ ‬ما‭ ‬يقدمونه‭ ‬غير‭ ‬البؤس‭ ‬والجوع،‭ ‬والعوز‭ ‬والتخلف،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬ألوان‭ ‬الشقاء‭ ‬التي‭ ‬غادرتها‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة،‭ ‬وهي‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تفكر‭ ‬فيها،‭ ‬أو‭ ‬تتخوف‭ ‬من‭ ‬عودتها،‭ ‬ولا‭ ‬ترغب‭ ‬أن‭ ‬تتعامل‭ ‬معها‭ ‬من‭ ‬جديد‭.‬

‭ ‬وفي‭ ‬ذات‭ ‬الوقت‭ ‬فإن‭ ‬الدول‭ ‬الغنية‭ ‬هذه‭ ‬تقيم‭ ‬علاقات‭ ‬جيدة‭ ‬مع‭ ‬بعضها‭ ‬البعض،‭ ‬وتتبادل‭ ‬معها‭ ‬التسهيلات‭ ‬التجارية‭ ‬والاقتصادية،‭ ‬فمجتمع‭ ‬الأغنياء‭ ‬يمارس‭ ‬نوعاً‭ ‬من‭ (‬الوحدة‭) ‬داخل‭ ‬أقطاره،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬بأبسط‭ ‬صورة،‭ ‬ويشعر‭ ‬أعضاؤه‭ ‬بالإلفة‭ ‬مع‭ ‬زملاء‭ ‬الثروة‭ ‬والجاه‭ ‬العريض،‭ ‬أما‭ ‬ما‭ ‬سواهم‭ ‬فهم‭ ‬من‭ ‬عالم،‭ ‬وهم‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬ثان‭.‬

‭ ‬ربما‭ ‬تعطي‭ ‬هذه‭ ‬الصورة،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬ظاهرة‭ (‬التمايز‭ ‬الطبقي‭)‬،‭ ‬انطباعاً‭ ‬عن‭ ‬المزاج‭ ‬العربي‭ ‬العام،‭ ‬فهو‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬القلق‭ ‬والخوف‭ ‬وعدم‭ ‬الاستقرار،‭ ‬وإذا‭ ‬ما‭ ‬قيض‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬حقبة‭ ‬ما،‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬المشكلات،‭ ‬فسيفكر‭ ‬جدياً‭ ‬في‭ ‬التحالفر‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬التنمية‭ ‬الحقيقية‭ ‬المبنية‭ ‬على‭ ‬قيم‭ ‬العمل‭ ‬والإنتاج‭ ‬ستؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تقريب‭ ‬المسافات،‭ ‬وربما‭ ‬تقود‭ ‬إلى‭ ‬خطوات‭ ‬جدية‭ ‬مثل‭ ‬فتح‭ ‬الحدود،‭ ‬والتكامل‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬وبناء‭ ‬الثقة،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬كثير،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬المودة‭ ‬لا‭ ‬يقوم‭ ‬بين‭ ‬فقراء‭ ‬وأغنياء،‭ ‬أو‭ ‬معدمين‭ ‬وميسورين‭.‬

‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬الحكم‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كنا‭ ‬قادرين‭ ‬على‭ ‬الانضمام‭ ‬لمجتمع‭ ‬الأغنياء‭ ‬هذا،‭ ‬وإزاحة‭ ‬العقبة‭ ‬الكأداء‭ ‬التي‭ ‬تحول‭ ‬دون‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬وحدة‭ ‬مجتمعاتنا،‭ ‬وإزالة‭ ‬الفوارق‭ ‬الطبقية‭ ‬بينها،‭ ‬بوجود‭ ‬أعداء‭ ‬تاريخيين‭ ‬لا‭ ‬يريدون‭ ‬لها‭ ‬ذلك،‭ ‬لكن‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬التنمية‭ ‬ستستغرق‭ ‬وقتاً‭ ‬طويلاً‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ثمة‭ ‬أخ‭ ‬أو‭ ‬صديق‭ ‬يمد‭ ‬لنا‭ ‬يد‭ ‬العون،‭ ‬أو‭ ‬يخفف‭ ‬عنا‭ ‬بعض‭ ‬العبء‭.‬

‭ ‬إن‭ ‬معادلة‭ ‬التنمية‭ ‬التي‭ ‬تقود‭ ‬إلى‭ ‬الوحدة‭ ‬ربما‭ ‬تكون‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬الخيارات‭ ‬الأساسية‭ ‬التي‭ ‬سيفكر‭ ‬فيها‭ ‬أشخاص‭ ‬ملهمون‭ ‬في‭ ‬المستقبل،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬فكرة‭ ‬الوحدة‭ ‬تتجدد‭ ‬باستمرار،‭ ‬أما‭ ‬اليأس‭ ‬منها،‭ ‬أو‭ ‬التقليل‭ ‬من‭ ‬شأنها،‭ ‬أو‭ ‬وضع‭ ‬اشتراطات‭ ‬عنصرية‭ ‬أو‭ ‬سياسية‭ ‬عليها،‭ ‬فستنتهي‭ ‬حالما‭ ‬يشعر‭ ‬الجميع‭ ‬أن‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الهدف،‭ ‬ممهدة‭ ‬تماماً‭.‬


مشاهدات 90
الكاتب محمد زكي ابراهيم
أضيف 2024/12/13 - 11:35 PM
آخر تحديث 2024/12/21 - 10:32 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 107 الشهر 9289 الكلي 10065384
الوقت الآن
الأحد 2024/12/22 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير