من السهل جدًّا إلقاءُ شتى الأوصاف البذيئة والنابية وغيرها من الاتهامات المهينة أو حتى الطعن في شرف الغير وأخلاقه، لاسيّما إذا كان الطرف المقصود عنصرًا نسائيًا أبيًّا متحرّرًا بعض الشيء، محصّنًا عقلاً وعلمًا ووعيًا وفكرًا ومعرفةً وثقافةً ممّن اعتدن الصدّ والردّ ومواجهة أمثال هذه التجاوزات بحكمة وصبر ورويّة وكفاية كلامية مقنعة. وما أكثر ما طرقَ مسامعنا وشهدنا من أمثال هذه النماذج النسائية المتحرّرة المتمكنة إيجابيًا وليس شكلاً ولونًا ومظهرًا عبر مختلف وسائل النقل والتواصل الاجتماعي في أيامنا هذه من خلال محاورات وجدالات ومناورات ثقافية وحتى دينية وفقهية جادّة واضحة الرؤية والهدف وأخرى برامجية خاصة كان لها الأثر البالغ في تغيير بوصلة الحكم على العنصر النسائي المتهم دومًا بنقص العقل والدين.
في رأيي المتواضع أنّ هذه النماذج الإيجابية من النساء الناشطات والمثقفات والناجحات مجتمعيًا ومهنيًا في مواقع العمل التي يعملنَ وينشطنَ فيها قد تمكنَّ من تغيير صورة المرأة العراقية الأصيلة بعدما طغت عليها سماتٌ سلبية لنساء مختلفات آثرنَ الاسترجال وشق طريق الشهرة بطرق غير رصينة، بل ومشبوهة، ومنها استخدام واستغلال وسائل التواصل الاجتماعي الفاضحة ممّا تقدمُه التكنلوجيا المتقدمة كلّ يوم. ناهيك عن الرغبة الجامحة لبعضهنّ بالصعود الصاروخي سلّمَ الرفاهة والعيش الباذخ بفضل دعم بعض أصحاب العقول العاهرة ولاسيّما ممن يدّعون وجاهة القوم ومشيخة الأتباع وساسة أحزاب من الذين مكنوهنَّ من تسلّق هذه الوسائل لغايات مبطنات وأغراض أصبحت اليوم مكشوفة في مجتمعنا العراقي. فقد استغلّ بعض أصحاب هذه العقول المتسلطة على مجتمعنا العراقي بل ودولتنا العراقية، ومنهم بالذات مَن تسلقوا السلطات التنفيذية والتشريعية ومسؤوليات متقدمة أخرى في الدولة، ما تقدمه أشكالُ هذه النماذج الشاذة والمشبوهة وغالبيتُهنّ من نساء الليل والملاهي والكازينوهات و»البلوكرات» من مغريات جسدية وجمالية للإيقاع بالضحايا، وما أكثرهم! بل اصبحت بعض المظاهر تحكي قصص الثراء الفاحش لبعضهنَّ بين ليلة وضحاها من خلال التفاخر المعلن بامتطاء أرقى السيارات الفارهة والسكن في الفلل الشاخصة والشقق ذات الدرجات الممتازة التي أتاحتها لها فرص الزمن الأغبر. فالعقل الذكوري عندما يكون عاهرًا وطاغيًا ومستبدًّا فكريًا ولاسيّما إذا كانت تحكمُه أدوات عقائدية ظاهرية أو إداراتٌ واقعة تحت تأثير ورحمة أمثال هذه الأدوات المتديّنة أو المغلّفة بيافطات دينية و مذهبية وفقهية غير سوية، من شأنه أن يخلقَ مجتمعًا بل مجتمعاتٍ مهزوزة غير ذي قيمة ممّا يسهل تحوّلُها إلى قنواتٍ متهالكة ومتسخة مترعة بأشكال القيم المتراجعة سلبًا إلى الوراء بل إلى ما قبل عصور الحضارة. والعراق سائرٌ في هذا السلوك يومًا بعد آخر ومنذ عقود كما تسرد الأحداث وتشهد الأعين والأبدان. فالغلبة والسطوة والنفوذ والمال والجاه والأملاك والعقارات والأسواق والمولات والآلاف بل ملايين الدونمات المشاعة أو المملوكة للدولة أو لأصحابها الأصليين أصبح القدرُ الكبير منها بأيدي أصحاب التفاهات وأرباب النفوذ ومَن بيديه القوة والسلاح وقدرة التهديد والابتزاز والمساومة.
اقناع ايجابي
ما شهدناه في الأسابيع والأشهر الماضية، وربما مازلنا اليوم في ذات الصفحة الضبابية، من تقاطع واختلاف واتفاق وتوافقٍ في مباريات ونقاشات وحواراتٍ بصدد مناقشة إقحام قانون الأحوال الشخصية الجديد الذي حُشر ضمن سلّةٍ واحدة مع مشاريع أُريد لها سنّ قوانينها بالطريقة الفضة وغير المقبولة، يتيح لنا دومًا كمثقفين ومواطنين غيورين على الوطن والشعب والأرض والمستقبل، التعبير مرة أخرى عن معارضة ما يتعارض مع النفَّس المدني والحسّ الحضاري الذي تتميز به أرض الرافدين وتاريخُها وحضارتُها. ونحن هنا، لسنا نتبارى في ذكر أو تذكير ما شهدناه من شهادات مُفحِمة (بكسر الحاء) وردودٍ مقنعة ولغةٍ كافية ووافية في الإقناع كان روّادُها نساءٌ متحرّرات إيجابًا وليس سلبًا مهما سعى مَن سعى لقذفهنّ بشتى الألقاب والصفات البذيئة التي لا تصلح في بلدٍ كان حتى الأمس القريب خير ساحة لتحرّر العقول المتخلفة وجنانًا طيبة لشتى العلوم والخدمات وأشكال المدنية بحيث كانت دولٌ أو دويلات سابقات تحلم بأن يكون لها من فتات ما في العراق من شواهدَ علمية وثقافية ومجتمعية تتفاخرُ بها. ولم يكن ذلك بعيدًا، بل كان هذا في خمسينيات وستينيات وسبعينيات وثمانينات القرن الماضي. وبعضنا شهودٌ على ما حصل! لكنّ الأمور جرت بغير ما اشتهى «سَفَنُ» البلاد لكون غالبية «الربابنة» السائدين والسائسين طيلة العقود المنصرمة كانوا إمّا من الدخلاء والغرباء عن الأرض الطيبة أو بعيدين عن مصالح الشعب البائس الذي اعتاد السيرَ خلف جلاّديه والمزوّرين فيه للوطنية الزائفة التي كانوا يتبجحون بها والتي كان ومازال يصفقُ لها الكثيرون مذ ذاك دون وعيٍ أو إدراك للحقيقة العارية الناصعة التي ليست بعيدة ولا غريبة عن الجميع. وكأنه كُتبَ علينا العيش في دوّامة الهتاف القديم المستجدّ مع حركة الأحداث:
«مات الملك، فلتسقط الحكومة العميلة…»
«عاش الزعيم.. طاحَ الزعيم .. تبًّا للزعيم»
«بالروح وبالدم نفديك يا قائدنا الأوحد»
وهكذا دواليك ما نسمعه اليوم في عهد المنظومة القائمة « كلنا وياك يا…»
فإلى متى شكل هذه «الدوّامة» الفارغة وهذه «القوانة» الرنانة غير المنتجة؟!
ذكورية متسلّطة
أقول، ليس من العيب أن تفتخر البلاد ومثقفوها الحقيقيون بالنخب الواعية من نساءٍ متحرّرات ومحصّناتٍ يرفضنَ العقل الذكوري العاهر الراغب دومًا بالوصول إلى المرأة، أية امرأة ناشطة أو متميزة أو ناجحة أو جميلة بشكلها وبجمال علمها وفكرها وعقلها على السواء، وأيضًا بقدرة إفحامِها للمقابل المشكِّك بجدارتها وحقها في الحياة كما تختارُها هي وليس كما يريدُ بعضُ دخلاء القوم والمتخلفين منهم فرضَها عليها بأدواتٍ مجحفة وتأويلاتٍ فقهية وأعرافٍ عشائرية عفى عليها الزمن. فأمثال هؤلاء في حقيقة نواياهم إنّما يسعون للوصول إلى جسدها حتمًا أكثر من التظاهر بحرصهم الظاهر على عفافها وحشمتها وزينتها المحصورة في البيت وتربية النسل وتلبية رغبات الزوج الذكورية دون الاهتمام بحقها في التمتع هي أيضًا بما يجعلها متساوية معه في كلّ شيء وأيّ شيء. ومن المضحك المبكي تباكي الكثيرين من أصحاب هذه العقول المريضة على حقوق المرأة في بلدنا ومجتمعاتنا في المناسبات التي تُقامُ للاحتفاء بها وإحياء دورها والإشادة بقدراتها بهدف إبراز قيمتها الإنسانية والبشرية العليا، ولو من حيث الشكل والمظهر بدافع التباهي المبطَّن بنوايا غير سليمة. ولا أعرف عن أية حقوقٍ يتحدثون ويريدونها لها في حين يسعون لطمس وجودها وحصرها في سياجات المنزل ودفعها حصرًا في خدمة الرجل وأهله وفي تربية النسل المرغوب به بلا تردّد ولا هوادة على طريقة فيلم «أفواه وأرانب». لقد صدق الشاعر نزار قباني حين قوله» إنهم لا يريدون حرية المرأة، بل يريدون الوصول إلى المرأة». وشتان ما بين الفعلين والمفهومين!
إن هذا النمط من الذكورية المتسلطة بحججٍ مغلفةٍ بالدّين والتديّن يرفض أصلاً إفساح أيّ شكلٍ من أشكال الحرية للمرأة الباحثة عن مساحة مشروعة من الحركة الإيجابية والإبداعية كي لا تخرج عن دارته الاحتوائية ووصايته التملّكية التي هي من بين غرائزه الذكورية غير الإلزامية عليهنّ كبشرٍ مخلوقاتٍ بمساواةٍ من الخالق على الخليقة دون تمييز. فكما أنّ المرأة بطبيعتها الخَلقية (من الخليقة) ليست أداةً طيّعةً لأهواء الرجل كي يتلاعبَ بمشاعرها ومصيرها ومستقبل حياتها دون أخذ رأيها في أمورٍ مصيرية وأسرية ومجتمعية وحياتية، ولكونها نصف المجتمع بحسب وصف العقلاء وأصحاب الفكر وعلماء الاجتماع وأرباب الفقه من الحكماء، فكيف بالبعض ممّن يسمح لنفسه بنقض هذه الحقيقة وفرض الهوى الذكوري خارج نطاق إرادة الخالق ورؤية المخلوق في تساوي الجنسين بإكمال بعضهما بعض؟ لذا فما يُقالُ عن قوّامة الرجل على المرأة ووصايته الذكورية عليها دون أخذ رأيها أو تحديد موقفها الإنساني والمجتمعي ممّا يُقالُ أو يُطرحُ أو يُتخذُ من قرارٍ أو قوانين أو إجراءاتٍ خلف الكواليس من أجل تركيعها وتحديد حركتها وتحييد فكرها ونشاطها وسط المجتمعات لا يمكن وصفُه سوى بدكتاتورية «الذكورية» التي تبحث غريزيًا عن صيد العنصر الأنثوي بسبب ما يجدُه الرجل في هذا النصف الآخر من مغرياتٍ جسدية وإيماءات جنسية بحتة تفرضُها أهواءٌ وأغراضٌ نابعة من أنانيته وسطوته عليها وعلى حقوقها الإنسانية. وهذا من أسباب فشل مجتمعاتنا الشرقية والعراقية منها بصورة أدقّ، بسبب تراجع قيمنا المجتمعية والتربوية والإنسانية وفقداننا لبوصلة الإدارة الصحيحة السديدة في قيادة البلد وتوجيه الشعب نحو الاستدامة الصالحة في عيش الحياة الحرّة الكريمة بدلاً من التمسك بأهداب التديّن الفارغ وقشوره ومظاهره الشكلية ممّا لا ينفع وبعذرية الجسد الهزيل المفضوح والمقرون بالعقل العاهر المرفوض مجتمعيًا ودينيًا وأخلاقيًا وإنسانيًا. فقد أثبتت التجارب حقيقة أنّ المجتمعات التي تتظاهر بالتمسّك بأهداب التديّن الفارغ والمظاهر الدينية المبالَغ بها هي من أكثر المجتمعات فسادًا وتخلفًا ولاسيّما قهرًا ضدّ المرأة وحقوقها وكفاءتها وحقها في عيش حياتها كما أرادها الخالق وعبادُه المعتدلون المؤمنون و»الحقّانيون».