الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
رواية هذيان محموم القصيرة جداً.. إشكالية التجنيس ودلالات المفارقة

بواسطة azzaman

رواية هذيان محموم القصيرة جداً.. إشكالية التجنيس ودلالات المفارقة

سمير الخليل

 

يضع الراوئي حميد الحريزي توصيفاً إجناسياً على غلاف روايته (هذيان محموم) الصادرة عن (منشورات رؤى كركوك 2024) ويصفها بأنها (رواية قصيرة جداً) وهي تتكوّن من (86) صفحة من (القطع الصغير إذ الحجم والشكل يحيلان إلى دلالة القصر الشديد، وقد يبدو هذا التوصيف جديداً، فقد عرفت أدبيّات السرد مصطلح (الرواية القصيرة) الذي ما يزال بحاجة إلى تجارب وزمن لرسوخ هذا النوع السردي، ولكنّ مصطلح (الرواية القصيرة جداً) يثير كثيراً من التساؤلات والإشكاليات إذ ترتبط بالمعايير الجمالية والمعرفيّة التي تمثّل المرتكز في وضع الحدود والتعريف والهوية لكلّ نوع، ولكنّ هذه الحدود والمعايير لا تمثّل بطبيعة الحال قوانين نهائية ثابتة، ومعادلات رياضيّة فالفن والإبداع غالباً ما يكسر القواعد والتأسيسات بروح التجديد والتجريب والتمرّد المنتج، وتبقى النتائج أو درجة الإجادة والقبول والشيوع رهينة بالمنحى التراكمي نوعاً وكمّاً ومدى رسوخ هذه الأنماط المستحدثة، وهل تصمد إزاء الزمن؟ وإزاء التواتر التداولي؟، مع التوكيد أو الإلتفات إلى أَنَّ اطلاق المصطلحات والتوصيفات لا يعتمد على عدد الصفحات أو المتعيّن الكمي في تشكيل هويّة النوع الأدبي، فهناك مشتركات تثير شيئاً من الإشكالية بين (الرواية القصيرة) و (الرواية القصيرة جداً) فكلاهما ينسلخ عن الرواية الطويلة على طريقة دستويوفسكي وبلزاك وتولستوي ونجيب محفوظ وغيرهم، وتميّزها أيضاً بالإختزال والتكثيف والإيجاز، وعدم الاستغراق في التفاصيل والإطناب السردي.

ونعتقد أن الإشكالية لا تكمن في المنحى أو المتعيّن الكمي والسؤال: ماذا عن المضمون والمحتوى وفلسفة الأثر السردي؟ وهل هناك فروق واختلاف على هذا المستوى بين هذين النوعين السرديين، وهل يختلف المضمون في الرواية و(الرواية القصيرة) و(الرواية القصيرة جداً ومن ثمّ يتم ادراك أن هذه الإشتغالات ترسم حراكها حول الفضاء الشكلي للعمل الأدبي، ولا تقترب أو تؤسس لمعايرة على المستوى المضموني أو الثيماتي حين تتمركز حولها الرواية عموماً بمختلف أنماطها، مع إدراك الضرورة السياقية لهذه التبدلات والتحوّلات أي ما يرتبط بايقاع العصر، وتسارع الحياة، والزمن المتلاشي في الحياة المعاصرة الذي أصبح من المتعذّر قراءة روايات تتجاوز مئات الصفحات، فالآثار الإبداعية والفنيّة عموماً بدأت تتأثر بإيقاع العصر المتسارع وأصبحت تميل إلى تقنيات التكثيف والإختزال. والسؤال الأكثر أهمية وإلحاحاً هل تستطيع الأنواع القصيرة أن تقدّم مضامين واسئلة كبيرة؟ وهل تنجح في اقامة نوع من التماهي والتناغم بين الشكل والمضمون والأداء الجمالي والعمق الفلسفي للعمل الأدبي، وتتمثل الإشكالية ويتحوّل هذا المفهوم المرتبط بما تحققه الأنواع القصيرة من نضج ورقيّ يلغي أو يهمّش المنحى الكمّي، والمنطق الشكلي للعمل الفنيّ، ويصبح المقياس العددي أو المتعين الإختزالي لا يؤثر ولا يثير نقصاً أو اختلافاً متراجعاً وسلبياً، بل قد يحرز تقدّماً لما ينطوي عليه الاختزال من قيمة تعبيرية وأسلوبية تجعله يقترب من الاختزال الشعري والتركيز السردي، وقد يشتبك مصطلح أو النوع الذي تمثلّه (الرواية القصيرة جداً) مع نوع أدبي وسردي آخر هو القصّة الطويلة؟! – ويصبح من الصعب التمييز بين القصّة الطويلة وبين (الرواية القصيرة جداً وسنضع هذا الجدل جانباً ونتناول رواية (الهذيان المحموم) تحليلاً ومقاربة ونرصد ظواهرها الفنيّة والمضمون الذي تمركزت حوله لأنها تعدّ رائدة في تجنيس (القصّة القصيرة جداً وعلى ضوء التحليل الدلالي لعتبة العنوان الذي يشير إلى حدوث حالة مضطربة تجعله يميل إلى وضع بيولوجي يمثل نوعاً من الخروج عن المنطق واطلاق الكلمات المرتبكة وفقدان الإحساس بالمحيط، ويصبح الشخص منفصلاً عن الواقع، ويردّد كلمات وألفاظ غريبة، أمّا مفردة (محموم) أي وجود الحمّى وارتفاع درجة الحرارة التي تجعل الجسد يعاني كثيراً من الإضطراب والضعف وانعدام التركيز، وعلى المستوى التركيبي للعنوان فإنّه تكوّن من مفردتين من صفة وموصوف، ويتمثل المستوى الدلالي للعنوان في فكرة حدوث نوع من الغيبوبة واستشراف ما سيحدث بعيداً عن اللّحظة المعيشة.

طقوس الاحتضار

وترتبط دلالة العنوان مع محتوى ومضمون الرواية التي تتمركز حول تقنيّة أو اسلوب المفارقة وتخيّل أحداث استباقية يتم من خلالها انتقال الشخصيّة المحورية في القصّة (حامد) إلى العالم الأخروي، وتحدث له طقوس الإحتضار وعلامات الموت ثم يتجمّع الناس وأفراد أسرته حوله، وينتقل إلى العالم الآخر، وبعدها تحدث مراسيم التشييع والدفن واختيار القبر، وما يرتبط بهذه الأجواء أو طقوس الموت التي يتعرض لها البشر، وهم يودّعون سنيناً من الحياة ويودّعون أفكارهم ورغباتهم وأحلامهم وينتقلون إلى عالم آخر مختلف ومجهول.

تبدأ الرواية بالمقطع الإستهلالي الآتي:

«كما تتهاوى ورقة صفراء على الأرض بفعل ريح عاتية عجزت يده عن هش ذبابة اثارت طنيناً مزعجاً بالقرب من أذنه اليمنى، أصابه الهلع والخوف، وهو يرى قطيعاً من الذئاب، مكشرّة الأنياب تحاول أن تدهم غرفته بعد أن نجحت في دخول الدار قفزاً، صرخ بأعلى صوته بوجه قطيع الذئاب ولكنّ صراخه لم يثر اهتمام حتّى الذبابة التي زاد طنينها». (الرواية: 21)، والمقطع فنياً قد صيغ على تقنية السرد الموضوعي عن طريق السارد العليم بالإرتكاز على ضمير الغائب، وهو يقدّم الشخصيّة والأحداث التي يتعمّق بمعرفة تفاصيلها، والمنحى الآخر أن الرواية قد بدأت باستهلال دال ومباشر وانطلقت من نقطة التأزم، وهي لحظات الاحتضار، وما يرتبط بها من تهيؤات وكوابيس وشعور بالهلع والخوف، وما يثيره وجود الذباب والذئاب كدلالات على بداية الوحشة والغربة والخوف الذي يغزو جسد الإنسان وروحه، وهو يعانق لحظات التلاشي والاحتضار.

ولعلّ مشهد الاحتضار يحيل إلى نقيضه أي إلى التعمّق أو العودة والتفكر بالحياة وتأمّلها من خلال هذه اللحظات الحاسمة والقلقة، وبذا فإن الرواية بمجملها تقوم على إثارة نوع من الإشتباك بين ثنائية (الحياة والموت وبعد مراسيم وطقوس الموت تبدأ اسئلة الحياة متمثلّة بالتفكير بالمعنى الوجودي حول الإنسان ومعنى وجوده، وطبيعة الحياة والأخلاق والدين، ودور الفكر في تشكّل نوع الإنسان ومدى اقترابه من الإيمان أو الإلحاد.

ويبدو ان شخصيّة حامد بطبيعتها شخصيّة اشكالية أساساً متأرجحة بين الإيمان والشك والقبول والرفض، فالشيخ الذي يترّحم على حامد ويدعو له بالغفران، كان يعرف أنه اقرب إلى فقدان الإيمان ويعبّر المقطع الآتي عن هذا الملمح: «بعد أن أكمل (الروزخون) بكائيته والدعاء بالرحمة والمغفرة للمرحوم صاحب الذكر الطيب، والفكر النيّر والأدب الرفيع، في حين كان يَصفه في حياته بالملحد والزنديق وعدو الدين والمذهب، ولكن يبدو أن رزمة المال التي استلمها من الشيخ مسحت كل هذه الصفات، وبعد الوليمة تدافع اصحاب القدور من الفقراء لتملأ بالفائض من الطعام». (الرواية: 46)، فالمقطع يكشف عن إحدى مفارقات التعزية، ومراسيم العزاء التي تشهد كثيراً من المفارقات والتناقضات من مجاملة أهل الميت بإسباغ الصفات الرفيعة عليه، ويتحوّل العزاء إلى وليمة للطعام وبعدها يُنسى المرحوم ويبتلعه الإهمال.

أمّا الملمح الآخر المهم فيكشف عنه المقطع أيضاً وهو الإشارة إلى أَنَّ (حامداً) كان يعمل في مجال الكتابة والأدب وهي احالة إلى إشكالية المثّقف وما يثيره وجوده من إشكاليات، وتأزمّات في المجتمع الذي يعيش فيه، وهذه المقاربة تسوّغ لكاتب الرواية أن يوظف تقنية أو أسلوب استحضار الشخصيّات، واستدعاء الفلاسفة والشعراء والمفكّرين للحديث عن جدلية (الحياة والموت) و(الإيمان والإلحاد) وإثارة كثير من الأسئلة الوجوديّة والاجتماعية، وعن طبيعة الحياة وطبيعة المجتمعات ودور الفكر والفلسفة والآيديولوجيات والدين في تشكيل نمط الحياة، وكذلك تناول الواقع الإنساني، والحديث عن أزمة وجود المرأة ومعاناتها وطبيعة دورها في الحياة.

وتصبح تقنية استحضار هذه الشخصيّات بعد موت (حامد) مبرّراً لكونه قضى حياته في القراءة والكتابة والتأمّل ولابد في لحظة الوداع أو مغادرة الحياة أن يستدعي هذه الشخصيّات المتناقضة في توجّهاتها والمتباينة في حياتها والعصر الذي عاشت فيه، واتسّمت دلالة انتقاء هذه الشخصيّات مع تعميق المضمون الفكري للرواية عموماً، وكانت هذه الشخصيّات تتمثل باخناتون والسيد المسيح والشاعر الإشكالي عمر الخيام ورائد الإشتراكية والشيوعية (كارل ماركس) و (أبيقور) الفيلسوف اليوناني الذي تعمق في جدل الحياة والموت واللّذة، والشاعر الإشكالي الآخر (المعري) و (النظّام) المعتزلي و (واصل بن عطاء) المعتزلي أيضاً و (أنجلس) رفيق ماركس إلى أن يصل إلى الشخصيّات الإشكالية المعاصرة مثل المفكّر (نصر حامد أبو زيد).

ولعلّ انتقاء هذه الشخصيّات الإشكالية وزجّها في بوتقة الجدل والحوار وطرح اشكاليات الحياة والموت والوجود وأسئلة وجودية وانسانية كثيرة، يمثّل المنحى القصدي من فرضية الموت، أو مدخل لإستحضار هذه الشخصيّات وطرح أفكارها، أي أن اللعبة السرديّة قد وظفت الموت بوصفه مساحة للتأمل والنقاء، ولكي يبرّر الروائي وجود هذه الشخصيّات لكون الشخصيّة الرئيسية كان معنيّاً بالثقافة والكتابة والجدل الفكري، ويتم استدعاء هذه الجدلية من خلال استذكار واستحضار تلك الشخصيّات في لحظة التأزم، وفي لحظة تأمّل الحياة بعد أن ينتقل الإنسان إلى العالم الأُخروي، وهذا هو جزء من الحالة المضطربة التي كابدها (حامد) في اسئلته عن الحياة والموت.

ويمكن الإستدلال على مقطع الاستدعاء واستحضار شخصيّة الشاعر (أبي العلاء المعرّي) والتعمّق في جدليّة الحياة والموت: «وقد سمع حامد المعرّي يقول: (اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا.. دين، وآخر ديّن لا عقل له). وقد تبادر إلى ذهن (حامد) وهو يتفكّر في هذه الظواهر سؤال حول عملية دفن الإنسان في تاريخ وجوده؟

كما تساءل حول الإسراف في بناء المساجد والجوامع كبيوت الله، فهل الله بحاجة إلى بيوت البشر؟ ليسكنها أو ليبتعد الإنسان فيها، وأخيه الإنسان الفقير يعيش التشرّد والضياع، وهم كما يقولون الفقراء عيال الله؟!». (الرواية: 48- 49)، وتتم تقنية الاستحضار من خلال (مخيلة حامد) وإقامة النقاش والحوار بين كثير من الشخصيّات المستدعاة وبتوظيف اسلوب استحضار هذه الشخصيّات يتم خلق فضاء فكري ومعرفي لمناقشة كثير من الأسئلة الوجوديّة، وهو ملمح من ملامح (الميتاسرد) الذي يعتمد على ذكر شخصيّات حقيقية وتثبيت اقوال وافكار ومقولات نطقت بها وعرفت بها: «استمع إليه (حامد) وزال عجبه حينما سمع صوت ابيقور والمعرّي والخيام، فهو لا يرى تفاصيل جسده ولكنّه يرى ما يشبه خيال انسان منعكس على جدار، إنّه صورة لتكتيف الإنسان ولكنه يتحرك ويتكلّم، وقد أخبره محدّثه، هو أيضاً يراه صورة سالبة ولكنّها متحركة وتتكلّم؟؟!». (الرواية: 50).

لعبة سردية

ويمكن القول إنَّ اللعبة السردية تضمر في تضاعيفها وسيلة أو طريقة لمناقشة هذه الأفكار واستحضار شخصيّات اشكالية وقد اراد الكاتب أن يجسد المعنى الفلسفي والفكري، والكثافة المعرفيّة التي شكلت جوهر الرواية على مستوى المضمون فكان لابُدَّ من ايجاد شكل ومجموعة من التقنيات لتسويغ هذا الإستدعاء فنيّاً. اختزلت الرواية إحالاتها واشاراتها في تفحص التاريخ البشري كما في المقطع الآتي: «توالت المشاهد وعرض مظلوميات آلاف البشر من المفكّرين، والمبشرين والأنبياء والرسل من النساء والرجال ممن أحرقوا، أو قطعت رؤوسهم وسجنوا وعذّبوا من قبل أهل السلطة». (الرواية: 70)، وقد عبّر هذا المقطع السردي الدال على اشكالية الموت الذي تقترفه السلطات وهو تسليط للضوء على الذات والآخر والفكر والسلطة. ولعلّ من الضرورة الإشارة إلى أن الرواية ترتكز اساساً على المفارقة التي تقترب من روح الكوميديا السوداء حين نكتشف بالنهاية أن (حامداً) لم يمت ولم يدفن وإن كل ما حدث وما تم سرده من احداث وشخصيّات وجدل وصراع لم يكن إلاّ بتأثير الحمّى والمرض الذي تعرض له (حامد) وارتفاع درجة حرارته إلى (50) درجة مما جعله مشتّتاً ويقع تحت طائلة هذيان محموم، وتلك هي النهاية غير المتوقعة والموفقة التي اسهمت في خلق نهاية تكسر المألوف وتعمق روح المفارقة ودلالاتها، إنها الدهشة الفنيّة حقاً.


مشاهدات 517
الكاتب سمير الخليل
أضيف 2024/11/21 - 1:32 AM
آخر تحديث 2024/12/05 - 6:43 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 108 الشهر 1865 الكلي 10057960
الوقت الآن
الخميس 2024/12/5 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير