الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
المنحى  الفكري في رواية تدوب على خد العذراء للأديب ابراهيم رسول


المنحى  الفكري في رواية تدوب على خد العذراء للأديب ابراهيم رسول

 حميد الحريـــــــــــــزي

 

 

عنوان الرواية يشير الى المدينة ، وقد وصفها الروائي بالعذراء وهي الفتاة العفيفة  الشريفة الطاهرةغير المدنسة ،على الرغم من جود ندوب على وجنتها ، كأثر تركته لسعة حشرة ، أو حبةشباب متقيحة ، أو خدشة عابرة، وهذالايقلل من جمالية العذراء ولا من مظهرها ، فليس هناك من هو كامل الجمال ومتكامل الخصال،لامدينة ، ولا مخلوق  وكما يقول أهلنا (كل حلو وبي لولوه ).

أعلاه أول أمر اردت الآشارة اليه في دلالات الرواية .وهي عبارة عن سيرة مدينة ، وسيرة شخص جمع بين الدرس الديني الحوزوي ،والدرس العلمي (صيدلة)، والولع بدراسة وقراءة الكتب  وحيازتها، مما اعطاه أمكانية الاطلاع على مساحة واسعة من البنية المجتمعية لمدينته ، والاطلاع على طيف واسع من الافكار بمختلف توجهاتها المختلفة خصوصا وهو يمتلك حب الاطلاع على كل مختلف وغير تقليدي  يشاكس طبيعة وسطه وتربيته  ومناخات عمله ودرسه ...

ومما اريد التنويه اليه هو ضرورة أن لا يخلط القاريء سواء القاريء الناقد لأو القاريء العادي بين شخصية الراوي وبين شخصية الروائي، وعذا مما تلاحظه في الكثير من الاحكام النقدية أو اراء المتلقي العادي، حيث يتم الدمج بين الشخصيتين واعتبار كل ماتقوله شخصيات الرواية وعلى  وجه الخصوص بطل الرواية أو الشخصية الروائية الرئيسة باعتبارها شخصية الروائي متناسين  كون الروائي هو مخلق ومتخيل ومصنع شخصيات الرواية  ولا يمكن أن يمثل ايا من شخصياتها سواء كانت خيرة أو شريرة ، شجاعة لأو جبانة ، وضيعة أو شريفة ، انما الشخصية في الرواية هي وليدة المجتمع المعاش جسد الروائي صفاتها وتحولاتها وسلوكياتها ضمن سرده الروائي .

ان المزج بين الراوي والروائي يولد موقفا سواء بالحب والكره ، القبول والتمثل أو الرفض لشخصية الروائي مما يعرضه الى ردود فعل مختلفةقد تكون خطيرة تصل حد التعدي والقتل كما حصل للعديد من الادباء والروائيين ممن كتبوا روايات غير تقليدية ، تعرضت الى المسكوت عنه ومزقت بعض الاقنعة الاجتماعية  عبر شخصيات متخيلة أو ملتقطة من النسيج الاجتماعي  المعاش.

وهذه الملاحظة يجب أن لاتغيب عن بال من يقرء هذه الرواية للأديب ابراهيم رسول الذي حاول أن يغوص في قاع المجتمع المعاش في المدينة  والقاء الضوء على الكثير من الظواهر التي تعتبر شاذة ، وهي معروفة ومتداول الحديث همسا أو علنا في مجالس المثقفين أو الناس العاديين ولكن لم يسجلها  أديب روائي سعيا منه وكما يرى الى اصلاح وتلافي ومنع مثل هذه السلوكيات والممارسات ليتقي المجتمع شرها  وأذاها ، فعرضه  ليس من باب التشهير أو التنفير ، أو الانتقاص من أحد ، أو التحريض  فالاديب والمفكر يؤشر الظاهرة والحدث لتنبيه الغافل والمتغافل ، واصلاح وردع الفاعل ...

بعد هذه المقدمة القصيرة  ندخل الى ما تعرضت له رواية (ندوب على خد العذراء) وهو تعريف معرف بال التعريف للاشارة الى مدينة بنفسها  وهي مدينة النجف  بالذات ...

النجف مهيمن على بيئتها الاجتماعية طابع المحافظة والتدين بشكل عام ، نظرا لوجود مرقد الامام علي عليه السلام فيها ، تكاد تتكون المدينة من طبقتين مدينة ظاهرة وهي الدور والمحال العامة والخاصة الظاهرة ، ومدينة مستترة مكونة من السراديب المشيدة تحت الارض ولايكاد بيت يخلو منها وذلك لتلافي حر  ولهب الصيف غير المحتمل  في المدينة ، بالأضافة الى مقبرة مترامية الأطراف منها الظاهر ومنها المستتر تحت الأرض مكونة سراديب الموتى ...

 هذه الطبيعة العمرانية للمدينة ولدت الكثير من المناطق المنعزلة البعيدة عن الأنظار وتساعد كثيرا على الأستتار  للقيام بأفعال وسلوكيات لايمكن الإقدام عليها علنا ، وتوفر البيئة الحاضنة والمشجعة على فعل الممنوع عرفا ومجتمعيا ، بالأضافة الى كونها يمكن ان تمثل معتكفا لمن يريد الأعتكاف والابتعاد عن العامة لمختلف الغايات سواء الدراسية والبحثية أو لاسباب نفسية .

بطل الرواية (الشيخ اسامة )، ابن لعائلة رجل دين يدرس  ويُدرس في الحوزة العلمية الدينية النجفية ، يسكن وعائلته زوجته وابنته وابنه في المدينة القديمة ، مدينة السراديب  والدرابين  الضيقة ، وقد اراد هذا الشيخ لولده أن يكون حوزويا منذ صغره  فأسماه منذ الصغر بشيخ  اسامة وادخله الحوزة ليتنقل بين جوامعها ومدارسها ومدرسيها ...

الروائي يبدء يسلط الضوء على (الشيخ اسامه ) وسلوكياته ومن خلاله على مايجري بين طيات وفئات وافراد المدينة القديمة على وجه الخصوص ، البيت والحوزة وسوق الحويش سوقا ومكتابات شخصيات ، فينطق الشيخ  اسامة وبضمير الانا  ليحدثنا  عن البيت ، عن الوالد والأخت والوالدة ، وعن زملائه في الحوزة، وعن اساتذته ، وعن الكتب والمكتبات ، مع استرجاعات واستذكارات وذكريات حول طفولته وما تعرض له من  والده أو من المحيط الخارجي .

دون الدخول في التفاصيل  ولكن ما ذكر في الرواية من ممارسات شاذة ومستنكرة اجتماعيا ودينيا فهي لاتخص مدينة بعينها، ولاتخص مجتمع بعينه وقد رافقت البشرية مذ نشأتها!!!

والتصرف الازدواجي الفردي المتناقض كالجمع بين مظهر العفاف والشرف والتدين وبين سلوك الابتذال والعهر والكفر بكل المقدسات في السر ، هذا الامر ممكن معالجته من قبل  علم النفس والاخصائيين النفسيين  ولايمكن ان يكون توصيف لسلوك أو ثقافة مدينة أو دين أو طائفة أو حزب ... ويمكن معالجة الامر بسالوب فني أدبي بعيدا عن التشخيص والتخصيص  لتوصيف أجتماعي معين سواء اكان ديني أو غير ديني ، لجاهل أو لمثقف ...وهذا هو المنحى الذي انتهجه الروائي بالتوصيف دون التعميم والتجريح

الافضل ادبيا النفاذ الى مثل  عمق هذه الشخصيات ومعرفة اسباب هذه السلوك وماوراء هذا التصرف ايحاء بالعلاج والاصلاح ، ومثله ماقدمت الرواية من نماذج مختلفة من النساء بين العفة والادب والثقافة وبين العهر والزنا والخيانة والجهل وعدم الأمانة ، وضرورة كشف ما يستتر وراء هذه السلوكيات وأسبابها وكيفية اصلاحها كمرض أجتماعي  له أسبابه ومسبباته .

قدمت الرواية نموذج لشاب يريد تحدي الواقع التقليدي والشغف الكبير في حب الكتب والقراءة لمختلف الأراء والافكار وهذا حق لكل انسان ، خصوصا حينما يكون قارئا ناقدا يمكن ان يميز بين الصالح والطالح له رؤية خاصة في الحياة والخلق والكون ، والثوابيت الأجتماعية السائدة دينية وغير دينية ، له أن يتبنى ما يراه صالحا ومنسجما مع توجهاته وتطلعاته دون كون مايختاره هو الأصح والأكمل ودون أنْ يسعى الى فرض قناعاته على الآخرين ، والحط من قيمهم ومايؤمنون به ...

طرحت الرواية الكثير من السلوكيات والتصرفات بواقعية كبيرة  وخصوص  مايخص العلاقات بين النساء والرجال وعلاقات الحب والجنس ، وبعد عرض العديد من التجارب يتوصل الى حالة جيدة من التوازن النفسي والسلوكي والسير على الطريق السليم  في بناء العلاقات العائلية والزوجية والتفريق بين العلاقات الشاذة وبين علاقات الصداقة المبنية على الثقة وتبادب الفكر والأحترام بين الجنسين كما بين الزوجين ...

تعطي الرواية نموذج جميل لحب الكتاب والسعي من أجل المزيد من القراءة والأطلاع والمطالعة  على الرغم من شظف العيش وصعوبة الشراء ، برر لنفسه ممارسة بعض الحيل والممارسات في الحصول على الكتب من رفوف المكتابات من مكتبات الأصدقاء في الحويش أو غيره ، لا لغرض السرقة ولكن من أجل القراءة واعادة الكتاب الى المكتبة ثانية دون علم صاحبها كما يظن ، مع إن  الاستاذ رشاد كان على علم  بأخذ شيخ اسامة للكتب  ولكنه كان يغض النظر مقدرا فيه حبه للمطالعة والقراءة والأطلاع ، وقد خلص الى ان يوصي  بالمكتبة  بعد وفاته الى شيخ اسامة وتكون تحت تصرفه مادام يعمل فيها .

وبذلك فهو قد اعطى نموذج المتدين الصادق متمثلا بوالده ، والنموذج الصالح والجيد غير المتدين الشيوعي استاذ رشاد ، فكل متمسك صادق  ومؤمن حقيقي بمنهجه وطريقه في الحياة دون نفاق ودون تزوير  وتصنع ...

على الرغم من ان الرواية لم تأت بما هو جديد ومبتكر  أو مكتشف كسلوكيات  او كأفكار من قبل شخصياتها الا إنَّها أمتلكت الجراة الى تظهير هذه السلوكيات وكشفها عبر حبر الرواية على الرغم من تداول اغلبها على السن المتحدثين في المجالس الخاصة والمقاهي ، والأفكار بخصوص بعض الأعتقادات الدينية والشعائر فهي مكتوب حولها ومناقشة كثيرا من قبل مفكرين وكتاب وأعلام دين وما موجود من إجتهادات خاصة بكل طائفة أو دين ومذهب ، وان ذكرت فباساليب فنية أدبية وهذه سلوكيات موجودة منذ خلق البشر وقامت المجتمعات والتجماعات ، وقصة قوم لوط معروفة  ومذكورة في الكتب المقدسة ...

لاشك أن الرواية تحمل الكثير من الجرأة في لفت أنظار القاريء الى عدد من الظواهر والممارسات الشاذة ،أو غير العقلانية حسب مايرى الراوي الممارسة من قبل شخصيات حقيقية أو متخيلة ضمن نسيج العائلة أو المؤسسة والمجتمع ، وهذه هي أحدى مهام الاديب والمثقف والروائي على وجه الخصوص ...وبعضها يفرضها الواقع المعاش مثل عيش الاب والام والاولاد والبنات في حيز ضيق كبيت من 75 متر فقط ،فغالبا ما يمكن الاطفال من الأطلاع على خصوصيات الوالدين ومشاهدت ممارساتهم الحميمية ، ويترك أنطباعات لاتمحى من ذاكرة الطفل طيلة حياته .

الرواية بحاجة الى المزيد من الجهد الروائي للعناية بالشكل  وبالاسلوب الفني  وليس بالمضمون فقط،احداث وظواهر تلوكها الالسن ولكن قلما يوثقها الأدب ، فقد امتلك ابراهيم رسول القدرة والجرأة لتثبيتها وتسجيلها على الورق عبر سيرة ذاتية أدبية  متخيلة مع امتدادتها في الواقع المعاش . لتنبيه الجاهل والمغفل، والسعي لتنفيذ المهمل والمؤجل ، من اجل صلاح المجتمع ووقايته من الانحراف والانجراف الى طريق الرذيلة ، او الى التعصب للرأي الواحد ، أوتبني الخرافة .وهذا هو واجب الأديب والمثقف ورسالته الأنسانية والأخلاقية والتنويرية .فالادب كالشعر والرواية وسيلة هامة ومؤثرة في التثوير والتنوير الأجتماعي...

 

 


مشاهدات 77
الكاتب  حميد الحريـــــــــــــزي
أضيف 2025/06/30 - 3:23 PM
آخر تحديث 2025/07/01 - 4:51 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 115 الشهر 115 الكلي 11153727
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/7/1 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير