أذن وعين
إنهم يحرقون الكتب
عبد اللطيف السعدون
لا أتذكر اسم الحكيم الذي نصح ابنه في ان لا يلتمس الحكمة من تجربته في الحياة فقط، بل عليه ان يلتمسها من تجارب الآخرين أيضا لكن تجارب الآخرين لن يجدها سوى في الكتب، وللأسف فان الطغاة والدكتاتوريين عادة ما يدركون هذه النصيحة، ولذلك فان واحدة من خططهم الشريرة التي يعملون على تحقيقها هو حرق الكتب التي تحمل أفكار التمرد والثورة، والتي تبشر بالتغيير، وتطرح ما يخالف السائد، وقد لا تكون عملية صنع المحارق وايقاد النار هي الوسيلة الوحيدة التي قد تضمن حجب الأفكار الحرة عن الناس الى حين معلوم فقد تكفلت التكنولوجيا الحديثة في عصرنا بتوفير وسائل وطرق تنجز المهمة من دون أن تترك اثرا.
ويقال بهذا الصدد ان الامبراطور شي هوانغ تي الذي حكم الصين قبل الميلاد بمئتي عام هو أول من سن فعلة الحرق وباركها لتتحول، فيما بعد، الى مثال تقتدي به كل سلطة حاكمة تخشى ان يتعلم مواطنوها الثورة من الكتب، واعتبر الفيلسوف الألماني هيغل ما فعله الامبراطور الصيني عملية غسيل دماغ تفرض حصارا فكريا على عقول مواطنيه، وتعمل على هدم وتدمير كل ما يذكر بالحكام السابقين ومنجزاتهم، وعلى محو آثارهم من الذاكرة.
فكر حر
وفي التاريخ ألف حكاية وحكاية عن محارق الكتب، وملايين المؤلفات التي تعرضت للحرق والاتلاف لكن تلك العمليات الشريرة لم تتمكن من حجب الفكر الحر، ولم تضمن محو أسماء المفكرين والفلاسفة والشعراء من ذاكرة الشعوب ومن صفحات التاريخ الى الأبد، وواحدة من تلك الحكايات التي نستعيدها اليوم جرت في عهد الزعيم النازي أدولف هتلر ففي لحظة عصابية مجنونة، في العاشر من مايو/ أيار، من عام 1933، عندما وقف جوزيف غوبلز أقرب مساعديه وأكثرهم اخلاصا له في الساحة العامة في برلين، وسط حشد يضم المئات من الطلبة والشباب مدشننا «مهرجان» حرق الكتب، رمى الكتاب الأول في المحرقة، وصرخ «لا للانحطاط، لا للفساد الاخلاقي»، تتابعت صرخات الحشد «لا للانحطاط، لا للفساد الأخلاقي»، وشرع الجميع في القاء الكتب التي اصطحبوها معهم، وهم ينتشون بما يفعلونه، يغنون ويرقصون، «المانيا فوق الجميع، فوق كل شيء في العالم، وحدة، عدالة، حرية»، وفي حالة هيجان واندفاع خارق للعادة تقدمت صفوف أخرى لتلقي بما لديها من كتب في المحرقة فيما كان غوبلز راعي المهرجان متابعا ما يجري أمامه، ولعله كان يفكر في سيده «الفوهرر» الذي سوف يكون ممتنا له على مأثرته في حرق الكتب التي تحض على الفساد، وفي تخليص شباب ألمانيا من شرورها!
أزيد من 25 ألف كتاب أحرقت في تلك التظاهرة الجماعية، من بينها كتب أرنست همنغواي وكارل ماركس وبرتولد بريخت وهاينريش مان وتوماس مان وآخرين ممن وضعت أسماؤهم في قائمة سوداء، وقد حرصت حركة الشباب النازي عل احياء هذه المحرقة سنويا في جامعات ومدارس ألمانيا الى ما بعد الحرب العالمية الثانية التي تعرض فيها هتلر ونظامه الى الهزيمة، وأعيد الاعتبار الى أولئك الكتاب، وعادت كتبهم لتحتل مكانها في رفوف المكتبات، كما طويت القائمة السوداء التي حملت أسماءهم.
وفي تاريخنا الكثير عن وقائع كهذه فقد تم حرق كتب أبن حزم في عهد دولة امراء الطوائف، وكتب الامام أبو حامد الغزالي في عهد دولة المرابطين، وكتب القاضي أبن رشد في عهد دولة الموحدين، ولن ننسى هنا قصيدة ابن حزم التي رثى فيها كتبه التي قال انها باقية في صدره، وسيأخذها معه الى القبر:
«فان تحرقوا القرطاس لن تحرقوا الذي/ تضمنه القرطاس، بل هو في صدري، يسير معي حيث استقلت كتائبي/ وينزل ان أنزل ويدفن في قبري».
واستطرادا مع ما سبق نذكر بما فعله المغول في غزوتهم لبغداد اذ ألقوا في نهر دجلة ملايين الكتب، وبما فعله السلاطين العثمانيون الذي عملوا على حرق الكتب التي تتحدث عن العرب ومفاخرهم وأمجادهم، من بينها كتب عبد الرحمن الكواكبي وجمال الدين الافغاني ومحمود شكري الألوسي.
سلطات حاكمة
وفي عصرنا الحاضر لم تترد السلطات الحاكمة في ايما بلد عربي عن حرق أو اتلاف الكتب التي ترى أنها تشكل تهديدا لها، او لما تسميه السلم الاجتماعي، أو الوحدة الوطنية، أو الأديان، أو التقاليد والأعراف، وقد جرى ويجري كل ذلك بعيدا عن الأنظار، وبإشراف أجهزة ومؤسسات رقابية رسمية لا تصرح بما تفعله.
وفي غزوة تنظيم (داعش) على الموصل تم حرق آلاف الكتب الثقافية والسياسية، وحتى الدينية بحجة أنها تخالف التعاليم الإسلامية أو تدعو الى الالحاد. ورغم كل ما سجله التاريخ الإنساني من أخبار محارق الكتب ومحارق الأفكار بقي الفكر الحر، وبقي الكتاب حتى وان تخلى عن صيغته الورقية واتخذ الشكل الالكتروني الذي فرضته التكنولوجيا، وسوف يبقى لأنه يمثل، كما يقول خورخي لويس بورخيس «امتدادا للذاكرة وللمخيلة» حيث لا يمكن للإنسان ان يعيش حياته من دونهما.