الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الدين منصة تعايش وتطور

بواسطة azzaman

هنا طوكيو (3)

الدين منصة تعايش وتطور

منقذ داغر

 

أستعرضت في المقال السابق أهم معايير وقيم الثقافة الأجتماعية في اليابان والتي شكلت البنية التحتية الملائمة لعملية التغيير والتحديث التكنولوجي والأقتصادي.لقد ساعدت تلك الثقافة في حل المعضلة الأساسية التي تواجه مجتمعاتنا العربية والأسلامية وهي: عصرنة التراث أم تتريث العصر؟ فبدلاً من جعل النكوص نحو الماضي والعيش فيه هو الحل لمشاكل اليابانيين،فأن الثقافة اليابانية أمتازت بالمرونة والعملية التي مكنّتها من عصرنة التراث ليصبح ملائماً لروح العصر ومتطلباته. أن الصراع بين منهجي أخذ الحاضر ليعيش في الماضي،أو تطويع الماضي ليعيش في الحاضر يمثل أحد أكبر التحديات التي تواجه مجتمعاتنا التي تعيسش ربما أهم لحظات تاريخها المعاصر. وقد أستطاع اليابانيون مواجهة هذا التحدي بشجاعة وأقتدار ساعدتهما فيه طبيعة الثقافة الأجتماعية السائدة هناك.ولعل فلسفة الديانة التي يؤمن بها غالبية الشعب الياباني ساعدت كثيراً في ذلك. فعلى الرغم من أن الشنتوية Shintoism هي الديانة الأصلية لليابان الا أن البوذية Buddhism دخلت اليابان منذ أمد بعيد (القرن السادس للميلاد) وأمتزجت مع الشنتوية في ما بات يسمى بالشنبوتسو شوجو Shinbutsu Shūgō .  كما أن الكونفوشيسوية Confucianism التي دخلت اليابان عبر البوابة الصينية منذ أمد بعيد شائعة هناك أيضاً. أن هذا المزيج الديني عمق أولاً مفهوم القبول والتعايش لممارسات البوذية والشنتوية والكونفشيوسية والتي من المعتاد لمعظم اليابانيين ممارسة خليط من طقوسها وفلسفتها في آن واحد دون شعور بالغضاضة أو بفوقية وعلوية أحدها على الأخرى. أن من المثير للدهشة في اليابان أن تجد آلهة مختلفة من ديانات مختلفة تعبد في نفس المعبد كما هو حاصل في معبد كيوموزو ديرا   Kiyomizu-dera الشهير.من جهة أخرى فوفقاً لأستطلاع رأي أجري قبل عدة سنوات فأن 3% فقط من اليابانيين يعرّفون أنفسهم بأنهم منتمين لدين معين على الرغم من أن 70% منهم يؤمنون بالشنتو-بوذية كما أفادوا بذلك في نفس الأستطلاع. فاليابانيون ينظرون لفكرة الأنتماء ل(جماعة) دينية على أنها فكرة غربية وليست يابانية.فالدين بالنسبة لهم فلسفة وممارسة،وليس طقوس وتنظيم مؤسسي. لذا فلا غضاضة من تبني مفاهيم مختلفة من أكثر من ديانة معاً. فمثلاً، تؤكد الفلسفة البوذية على أهمية الروح والبعث ما بعد الموت،في حين أن الشنتوية تؤكد على المعنى الروحي للحياة الدنيا وليس الآخرة.لذا  فأن الأهتمام بالطبيعة،والأنسان معاً يأتيان في مقدمة أولويات الشنتوية. أما الكونفوشيوسية  التي تؤكد على التوافق الأجتماعي وحس المسؤولية الأجتماعية، فقد ساعدت كثيراً على أدامة التماسك الأجتماعي خلال الأزمات وفترات التحول الكبرى التي عاشتها اليابان. لذا فأن المزيج البوذي-الشنتوي-الكونفشيوسي منح توازناً روحياً وحسياً بين الأهتمام بالدنيا والآخرة والتوافق بين المجتمع والطبيعة، مما أنعكس على الممارسات الحسية لأعمار الدنيا والأهتمام بتحسينها وفق رؤية فلسفية لا ترفض المادة لكنها لا تجعلها القيمة الأسمى.لقد أشرت سابقاً لكثير من الممارسات السلوكية اليومية التي شاهدتها في اليابان والتي تؤكد  على أولوية سلامة الأنسان قبل أي أعتبار مادي.

مزيج فلسفي

ومن الواضح أن ذلك متأتي من هذا المزيج الفلسفي المتميز للثقافة اليابانية. كما أن الثقافة اليابانية أنعكست بشكل واضح على السلوك الأجتماعي الياباني اليومي. الكياسة الأجتماعية:عبر سفراتي الكثيرة والمتنوعة،لم أرَ للآن شعباً كيّساً كالشعب الياباني. والمثير للأنتباه أن هذه الكياسة لا تظهر أو تمارس مع الغريب فقط،كما هو حاصل في بعض مجتمعاتنا، بل تجدها سلوكاً أجتماعياً أصيلاً تمت برمجته بنسخة أصلية، يصعب تقليدها، مع (السوفتوير)السلوكي لليابانيين. لم أجد يابانياً واحداً ممن تعاملت معهم في المحلات المختلفة ومن سواق التكسي وعمال المطاعم والقطارات أستلم مني بطاقة الدفع credit card  بيد واحدة.الجميع أستلموها،وأعادوها بكلتا اليدبن مع أبتسامة واضحة،كدلالة على الشكر والتقدير. أن كل أبواب التكسيات في اليابان تفتح وتغلق آلياً من قبل السائق لأن من عدم الكياسة أن تفتح وتغلق الأبواب بنفسك في حين أنك ضيفٌ على السائق،بخاصة أذا كنت تحمل أغراض معك،أو بخاصة حينما تكون كبير في السن ويصعب عليك فتح الباب. في كل المدن التي زرتها في العالم فأن الوقوف للكبير أو المرأة التي لا تجد مقعداً للجلوس في حافلة نقل الركاب أو المترو أمراً ممكناً لكنه ليس سلوك دائم.أما في اليابان فأن القاعدة هي الوقوف لمن يحتاجون الجلوس بدلاً عنك،والأستثناء هو عدم فعل ذلك. أما الأنحناء تعبيراً عن الشكر فهو حركة لازمة لكل ياباني يعبّر بها عن أمتنانه لك لأنك قدّمت له خدمة،أو أشتريت منه،أو أستخدمت الخدمة التي يقدمها أو غير ذلك. وكم فاجأني وجود أحد موظفي مؤسسة السكك عند باب كل عربة من عربات القطار لينحنون شكراً للركاب الذين كانوا ينزلون من القطار عند وصوله محطة طوكيو. فاليابانيون لا يجدون غضاضة أو أنتقاص منهم عندما ينحنون لشكر الآخر،مهما كان ذلك الآخر وأياً كانت مكانته.أن تسليط الضوء على هذه السلوكيات في سلسلة المقالات هذه لا يهدف لجعلها سلوكيات قياسية يجب أتباعها من قبل المجتمعات ذات الثقافات الأجتماعية المختلفة. كما أن أستنباط تأثيرات الديانة اليابانية على ثقافة اليابان لا يهدف للترويج للديانة اليابانية بقدر ما يهدف لتفسير العلاقة بين التطور الذي شهدته اليابان وبين ثقافتها الأجتماعية وهو ما سيتم أيضاحه أكبر في مقال قادم.


مشاهدات 90
الكاتب منقذ داغر
أضيف 2024/08/11 - 3:57 PM
آخر تحديث 2024/08/14 - 6:25 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 397 الشهر 5969 الكلي 9981513
الوقت الآن
الأربعاء 2024/8/14 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير