سلسلة أسواق بغداد
سوق الصفافير أشهر معالم الصناعة اليدوية العباسية - 1-
صلاح عبد الرزاق
عندما وجد علاء الدين المصباح السحري وقام بفركه بيديه فظهر له الجني بدأت حكايته المعروفة في ألف ليلة وليلة. كان المصباح من النحاس (الصفر) صنعته أيادي المهرة في سوق الصفافير ببغداد.
زيارة لسوق الصفافير الشهير
في الأول من شباط 2023 قاداتي رجلاي إلى سوق تراثي بغدادي عتيق . فقد دعاني صديقي الدبلوماسي علي هادي البياتي (الصفار) لزيارة سوق الصفافير والتعرف على محلات والده وأعمامه وأولادهم.
دخلنا للسوق من جهة شارع الرشيد ، وكان أول دكان على جهة اليمين هو دكان جده الحاج حميد مهدي البياتي الذي افتتحه في الثلاثينيات . وهو دكان صغير يعمل فيه أولاد عمه. والحاج حميد هو والد هادي ومحمد علي البياتي. وهادي هو والد السفير العراقي السابق حامد البياتي ومرافقي علي البياتي. وكانت المحلات المجاورة لنفس العائلة لكن بعضهم ترك مهنة الصفار وصار يبيع أدوات احتياطية للطباخات واللمبات وغيرها.
حدثني الأخ علي البياتي عن جده الحاج حميد فقال: كان يعمل في صهر المعادن كالنحاس لصناعة الهاون الذي لا يخلو منه بيت بغدادي أو مضيف عشائري أو مقهى. وكان جده يُسمى بالتكمچي لهذا السبب.
وفي الاربعينيات افتتح معمل لصناعة الموازين (جمع ميزان) والقباين (جمع قبّان). وكان أول معمل من نوعه في العراق لهذه الصناعة. ويحتفظ المتحف البغدادي بأحد الموازين وعليه علامة مصنع جده. وقد بقيت هذه المهنة في أولاده وأحفاده من عائلة البياتي في محلاتهم في منطقة السباع حتى نهاية القرن العشرين.
ومن العائلات المعروفة في السوق عائلة المرحوم الحاج باقر حمودي ويقع الخان إلى يسار السوق. وهو والد الشيخ همام حمودي رئيس المجلس الإسلامي الأعلى. وقد زرنا الخان وهو عبارة عن منزل قديم بطابقين تحول إلى مخزن للأقمشة (أطوال ملفوفة).
وهناك عائلات النرگلچي وهم الحاج صادق والحاج محمد النرگلچي. وما يزال أحفادهم يعملون في السوق.
يؤدي السوق إلى خان الحريري الذي يعود لعائلة الحريري. ويستخدم الخان حالياً لخزن المواد الجملة.
ومن العوائل التي عملت في سوق الصفافير الحاج علوان الصفار وولده زهير الصفار. ومن الذين يصنعون دلات القهوة من النحاس السيد فوزي الموسوي.
نقابة الصفارين
منذ العهد العباسي تأسست نقابة للصفارين في بغداد ، وكانت لهم مشيخة استمرت طوال العهود اللاحقة حتى نهاية العهد العثماني في العراق عام 1917.
في أواخر العهد العثماني كان الحاج سعيد الشيخ أمين هو نقيب الصفارين ، ثم أصبح ابنه الشيخ وهيب سعيد الصفار. وبوفاته انتهت مشيخة الصفارين. وكان لسوق الصفارين أهمية سياسية لأنه أنشأ أول نقابة مهنية في أسواق بغداد. وكانت نقابة الصفارين تقود التحركات والاحتجاجات الوطنية. وقد قامت السلطات العثمانية قد نفت النقيب سعيد الصفار إلى حلب لأسباب سياسية. وقد خرج أهالي بغداد لوداعه.
وكان لنقابة الصفارين موكب عزاء حسيني يقام في العشرة الأوائل من محرم الحرام. وفي زيارة الأربعين يبقى موكبهم من أقوى المواكب.
تنتمي أسرة سعيد الصفار إلى قبيلة ربيعة من فرع حسين النفل. وسعيد الصفار شقيق علاوي الذي ينتمي إليه إياد علاوي. (1)
وأخذ سوق الصفافير اسمه من الصّفِر أي معدن النحاس الذي تُصنع منه الأواني المنزلية المستخدمة في المنازل. وصفافير جمع صفّار وهم أصحاب المهنة . يقول العلامة مصطفى جواد: يجمع أهل بغداد صيغة (فعّال) كعطّار على (فعاعيل) خلافاً للقياس. فيقولون في جمع عطار (عطاطير) وفي جمع نجار (نجاجير) وفي جمع صفّار (صفافير). (2)
بدأ إنشاء الأسواق مع بدء تأسيس المدينة المدورة عام 145 هـ من قبل الخليفة أبو جعفر المنصور. إذ ظهر اهتمام المنصور بأسواق مدينته باعتبارها الجانب الاقتصادي لأية مدينة حيوية فكيف بالعاصمة الجديدة. يقول صاحب (كتاب أسواق بغداد) أنه (وقع كل أصحاب ربع ما يصير لكل رجل من الذرع ولمن معه من أصحابه ، وما قدره للحوانيت والأسواق في كل ربض ، وأمرهم أن يوسعوا في الحوانيت في كل ربض سوق جامعة تجمع التجارات) (3)
ويذكر اليعقوبي أن سوق الوراقين كان يضم مائة حانوت للكتب. (4)
وكانت هناك (سوق محاذية لنهر دجلة في الفرضة) ، والفرضة ثلمة في النهر. (5)
وكانت هناك سوق تسمى (سوق العطش) الذي بناه مدير الشرطة الحرشي لولي العهد المهدي بن المنصور في الرصافة حيث انتقل اليها خارج المدينة المدورة. والهدف كان تخريب سوق الكرخ العظيم . وكان اسمه سوق الري لكن غلب عليها سوق العطش. وكان السوق يمتد بين باب الشماسية والرصافة وتتصل بمسناة معز الدولة. (6)
يعد السوق من أسواق بغداد العباسية القديمة عندما كانت هذه المنطقة تسمى (محلة المخرّم) في العهد العباسي التي كان يسكنها كبار رجال الدولة من أمراء ووزراء وقادة ووجهاء وقضاة. ثم صارت محلة يسكنها سلاطين البويهية والسلجوقية. وكان يقع فيها (السوق العظمى التي تجتمع فيها أصناف التجارات والبياعات والصناعات على رأس الجسر ماراً من رأس الجسر مشرقاً ذات اليمين وذات الشمال من أصنافا التجارات والصناعات). (7)
وهناك (سوق خضير) وهي من معدن طرائف الصين حيث تتوفر البضائع الصينية من حرير ومواد مجففة وأواني خزفية ومعدنية.
وهذا يشير إلى أن وجود الأسواق التخصصية كانت موجودة منذ ذلك الوقت ، فكل سوق يختص بنوع من التجارة كالعطارين وباعة التوابل ، وأنواع الصناعات كالحدادين والنجارين والسيوف والخناجر. إضافة إلى سوق السراجين وصناعة الجلود والسروج والأحذية وأدوات الخيل. وسوق الأقمشة والحرير والملابس والسجاد والفرش وغيرها. وسوق البقالين وباعة الخضر والفواكه والتمور والخل ، وسوق القصابين واللحوم والدجاج وغيرها. وسوق للخزافين حيث تباع الأواني الطينية المفخورة. وبالتأكيد كان هناك سوق الصفارين حيث تصنع الأواني والأقداح والقدور النحاسية والصحون ومناقل النار ومصابيح الإنارة وأدوات المطبخ كالملاعق والسكاكين والمغارف وغيرها. وكان هناك سوق للصاغة حيث تصنع المجوهرات والأحجار الكريمة والحلي الذهبية والفضية التي يقتنيها تجار وأمراء بغداد والعائلات الثرية وخاصة نساء البلاط العباسي.
كانت في داخل المدينة المدورة أربعة أسواق رئيسة في الطاقات الممتدة في الطرق الأربعة الواقعة بين الرحبتين اللتين بين السور الثاني والثالث ، وهي ثلاثة وستون طاقاً. وكل منهما نظير لصاحبه ، يتوسطها طريق عرضه حوالي ثمانية أمتار ، يدخل إليها من رحبة السور الثاني ، من مدخل عليه باب ساج كبير فردين ، وعرض الطاقات خمسة وعشرون ذراعاً ، وطولها من أولها إلى الرحبة التي في مدخل السور الثالث مائتا ذراع. ولهذه الطاقات نوافذ وضعت بحيث تسمح بدخول أشعة الشمس وفي نفس الوقت تمنع تساقط المطر. فهي على الأرجح تشبه النوافذ الجانبية المستخدمة في خان مرجان أو المدرسة المستنصرية. (8)
وكانت الأسواق تراقب من قبل السلطة فقد وجود غرف بين الطاقات يتواجد فيها حراس الخليفة ، حيث يرابطون فيها لمراقبة التجار والباعة وحركة المشترين. وكان هؤلاء الحرس يتدخلون عند الضرورة لفض نزاع أو شجار ، وكذلك متابعة المخالفات التي تحدث خارج ضوابط العمل في السوق.
وكانت الأسواق مبنية بالجص والطابوق المفخور. وحرص البناؤون على تزيينها بالنقوش والزخارف الجصية المصبوبة في قوالب خاصة أو المنجورة من الطابوق على ما هو معمول به في واجهات القصر العباسي والمدرسة والمستنصرية وغيرها من الأبنية التي أنشئت فيما بعد.
إن سقوف هذه الطاقات تتكون من تلاصق قطع الآجر ، مختلفة الأشكال والأحجام ، كل واحدة منها منقوشة بنقوش خاصة. فتتكون من تلاصق هذه القطع أشكال هندسية ، وتكون قطع الآجر في بعض جوانبها منحنية السطوح ، وتقع نقوشها على سطحها المقعرة فتتكون بتلاصقها قبب مزخرفة في غاية الابداع والاتقان.
أسواق الكرخ ومواقعها
كانت أسواق الكرخ تؤسس حول مجاري الأنهار المنسابة في هذا الجانب من بغداد. وقد أسبغت الأسواق على أسماء الأنهار وحسب نوع البضاعة ، فدعيت الأنهار بأسماء البضاعة المباعة عندها مثل نهر البزّازين (جمع بزاز وهو بائع الأقمشة) ونهر الدجاج وغيرها. وكانت الأنهار تحمل السفن والقوارب التي تنقل البضائع وتفرغ حولتها على ضفة النهر قرب السوق المقصود.
في المصادر التاريخية وردت الأسواق الآتية:
1-السوق العظمى الممتدة من قصر وضاح إلى سوق الثلاثاء وطولها فرسخان وعرضها فرسخ واحد. وتمتد على جانبي الشارع الذي يخرج من محلة الشرقية حتى باب الكرخ. فلكل تجار وتجارة شوارع معلومة ، لا يختلط قوم بقوم ، ولا تجارة بتجارة ، وكل سوق مفردة ، وكل أهل مهنة مفردون بتجاراتهم.
2-سوق عبد الواحد التي أقيمت على الضفة اليسرى لنهر الصراة.
3- سويقة أبي الورد التي تقع على الجانب الأيسر من الطريق العام الخارج من باب الكوفة. وفي هذه السوق سائر المبيعات.
4- سوق غالب وتقع على امتداد سويقة أبي الورد وبنفس اتجاهها بين نهري الدجاج وطابق.
5- سوق البزازين ويبدأ من القنطرة المقامة على نهر البزازين ويتجه جنوباً حتى يقترب من نهر الدجاج.
6- سوق الجزارين أو القصابين الذي يقع في آخر الأسواق.
7- سوق الدجاج ويتفرع من سوق ينحدر نحو الجنوب الغربي والذي يقع على النهر المسمى باسمه. 8- 8- سوق الصابون ويتفرع من سوق الجزارين ، وينحدر نحو الجنوب الشرقي.
9- سوق اللحوم المقلية الذي كان بجانب نهر القلائين من جهة اليمين.
10- سوق باعة حساء السويق . وكان سويق الحمص يُباع بمقادير كبيرة في أسواق بغداد. وكان طعام الفقراء.
11- سوق الوراقين الذي كان يقع غي غرب القنطرة الجديدة وتمتد إلى غرب محلة الشرقية.
12- سوق الطعام ويقع شرقي الطريق العام الخارج من باب البصرة ، ويمتد من قنطرة على الجزء الشرقي من نهر الدجاج ليقترب من نقطة التقاء نهر طابق بنهر عيسى الأعظم.
13- سوق الزياتين ، وهم باعة الزيت. وهذا سوق بلا سقف ، بل ينصبون دكات فوقها بضائعهم. ويأتون عادة من القرى المجاورة صباحاً ثم يعودون إلى قراهم بعد تصريفها. ويشمل ذلك باعة الشوك والاشنان.
14- سوق باعة الاشنان ، وهو نوع من النبات ، يُجفّف ويستخدم لغسل الملابس .
15- سوق باعة الشوك على قنطرة الشوك التي أقيمت على نهر عيسى الأعظم عند التقائه بنهر الكلاب.
16- سوق الثلاثاء ، وكان يُقام يوم الثلاثاء ، وهو كنظيره في الجانب الشرقي من بغداد.
17- سوق باعة الرمان ويقع عند قنطرة الرمان وإلى الشرق من سوق الثلاثاء.
18- سوق دار القطن في محلة طابق التي تقع على نهر عيسى.
19- سوق دار البطيخ الذي يقع على الضفة اليسرى من نهر عيسى. وكانت تباع فيه الفواكه.
20 - سوق الدواب الذي يقع على الطريق المحاذي لنهر كرخايا (نهر الخر) ، وتباع فيه الخيل والجمال والبغال والحمير.
21- سوق الهيثم بن معاوية ، الذي كان أحد قواد الخليفة المنصور.
22- أسواق النصرية والعتابية ودار الغز حيث يُصنع الورق (الكاغد). أما سوق العتابية فكان مشهوراً بصناعة الثياب العتابية ، وتحاك من الحرير والقطن وبألوان متنوعة. وتنسب سوق العتابية إلى عتاب حفيد بني أمية وأحد أصحاب النبي (ص) ، وسكن أحفاده في هذه المحلة في وقت غير معروف.
23- سوق باب الشام وهي سوق رئيسة تقع على جانبي الشارع الخارج من باب الشام والمتجه نحو الجسر الأعلى. وهي سوق كبيرة تضم جميع التجارات والسلع.
ورغم ازدهار جانب الرصافة بعد انتقال ولي العهد المهدي بن المنصور إليه وبنائه القصور والبيوت لقادة جيشه وغيرهم ، لكن جانب الكرخ بقي محافظاً على أسواقه وتجاراته. يذكر الاصطخري المتوفى في النصف الأول من القرن الرابع الهجري أن الكرخ وأسواقها بقيت محتفظة بتفوقها على الجانب الشرقي من بغداد ، إذ كان بها الموسرون ومساكن معظم التجار. (9)
وكانت لبعض أسواق الكرخ (مثل سوق الثلاثاء وسوق الغنم وسوق الدواب) أسوار تحميها وأبواب تُغلق بعد الغروب عندما يتوقف البيع والشراء. وكانت هناك حراسات تحمي الحوانيت والخانات وما فيها من السلع من اللصوص أو عمليات النهب والسلب.
يورد الخطيب البغدادي أنه في السوق العتيقة كان هناك مسجد تغشاه الشيعة وتزوره وتعظمه وتزعم أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى في ذلك الموضع . ولم أر أحداً من أهل العلم يثبت أن علياً دخل بغداد ، ولا روي لنا في ذلك شيء غير ما. لكن الخطيب البغدادي ينسى أن علياً (ع) قد صلى في دير براثا الذي أصبح مسجداً بعد الإقامة فيه ثلاثة أيام أثناء عودته من حرب النهروان عام 36 هـ / أي قبل إنشاء بغداد بقرن من الزمان. ولذلك استدرك الخطيب البغدادي فنقل رواية عن القاضي أبو بكر محمد بن عمر الجعاني الحافظ أنه قال: يقال أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب اجتاز بها إلى النهروان راجعاً منه وصلى في مواضع منها. فإن صح ذلك فقد دخلها من كان معه من الصحابة. وقال الشيخ أبو بكر: والمحفوظ أن علياً سلك طريق المدائن في ذهابه إلى النهروان وفي رجوعه ، والله أعلم. (10)
الجدير بالذكر أن مسجد براثاً يقع بالقرب من المدينة المدورة في منطقة العطيفية الحالية ببغداد.
ولكثرة الأسواق في بغداد وعدد الحوانيت فيها حتى بلغت إيجارها السنوي اثني عشر ألف ألف درهم أي مليون درهم. (11)
التجاوز ظاهرة بغدادية قديمة
من الغريب أن نجد أن التجاوز على الشوارع العامة كان يحدث في بغداد المدورة. فقد ورد أن ( بعض السكان قد أقدم على إقامة منشآت تجارية أو دكاكين خاصة بهم دون علم السلطة المحلية . الأمر الذي أدى إلى حدوث اختناقات في شوارع وأزقة المدينة المدورة. وكان ذلك من جملة الدوافع التي حدت بالمنصور إلى نقل الأسواق إلى خارج أسوار المدينة المدورة ليكون في مقدوره توسيع طرق المدينة ووضعها على مقدار أربعين ذراعاً). (12)
ويذكر الخطيب البغدادي أنه في عام 157 هـ / (نقل أبو جعفر المنصور الأسواق من المدينة ومدينة الشرقية إلى باب الكرخ وباب الشعير والمحول ، وهي السوق التي تُعرف بالكرخ ، وأمر ببنائها من ماله على يدي الربيع مولاه، وفيها وسّع طريق المدينة وأرباضها ووضعها على مقدار أربعين ذراعاً ، وأمر بهدم ما شاع من الدور عن ذلك القدر). (13)
بناء أسواق مختصة في الكرخ
وهناك سبب آخر لنقل الأسواق من داخل المدينة (كانت تقع في منطقة العطيفية الحالية) إلى خارجها وهو سبب أمني. ففي أحد الأيام زار وفد من ملك الروم بغداد ، فأمر المنصور أن يُطاف بهم في المدينة ثم دعاهم ، فقال للبطريق: كيف رأيت في هذه المدينة ؟ قال: رأيت أموها كاملاً إلا في خلة واحدة. قال: ما هي؟ قال: عدوك يخترقها متى يشاء وأنت لا تعلم ، وأخبارك مبثوثة في الآفاق لا يمكنك سترها. قال: كيف؟ قال: الأسواق غير ممنوع منها أحد فيدخل العدو كأنه يريد أن يتسوّق. وأما التجار فإنها ترد الآفاق فيتحدثون بأخبارك.
فزعموا أن المنصور أمر حينئذ بإخراج الأسواق من المدينة إلى الكرخ، ورتب الأسواق كل صنف في موضعه. وقال: اجعلوا سوق القصابين في آخر الأسواق ، فإنهم سفهاء وفي أيديهم الحديد القاطع. ثم أمر أن يُبنى لأهل الأسواق مسجد يجتمعون فيه يوم الجمعة لا يدخلون المدينة ويفرد لهم ذلك. وقلّد ذلك الأمر رجلاً يقال له الوضاح بن شبا فبنى القصر الذي يقال له قصر الوضاح والمسجد فيه. ولم يضع المنصور على الأسواق غلة (ضريبة) حتى مات. فلما استخلف المهدي أشار عليه أبو عبيد الله بذلك ، فأمر فوضع الخراج على الحوانيت ، وولى أمر الخراج سعيد الخُرسي سنة 167 هـ / . (14)
وذكر الخطيب البغدادي وجود أسواق دار البطيخ ودرب الزيت ودرب العاج داخل الأزقة. ومن أسمائها يبدو أنها أسواق مختصة بالبطيخ والخضراوات والزيوت بأنواعها حيث كانت تستخدم للطهي ودهن الجسم وأخرى توضع في مصابيح الانارة ليلاً. (15)
جسور بغداد العباسية
لما اتسعت بغداد وزادت حركة التنقل بين الكرخ والرصافة ، ظهرت الحاجة لإنشاء جسور جديدة لتواكب ازدياد نمو سكان بغداد ، أضافة إلى الجسور القديمة. وكان المنصور قد أنشأ أول جسر يوصل بين الجانبين وذلك (عام 157 هـ / 773 م ). وبعد فترة وجد أن الجسر لا يفي بحركة السابلة وعربات البضائع ، فأمر بتشييد ثلاثة جسور أخرى. وشيد ولده محمد المهدي جسرين ، وعقد الرشيد جسرين آخرين عند باب الشماسية. وبذلك أصبح عدد الجسور في بغداد سبعة. وكانت الجسور تُشيد من صف عدد من القوارب الخشبية إلى جانب بعضها البعض ، ثم توضع فوقها ألواح خشبية متينة تتحمل ثقل المشاة والخيول والعربات. وكان هناك سياج على جانبي الجسر يحمي المشاة من السقوط في التهر.
أسواق الرصافة
احتلت الأسواق موقعاً حيوياً في بغداد. فإضافة إلى دورها الاقتصادي والمالي والاجتماعي صارت تجذب السلطة السياسية وميداناً للاستعراضات العسكرية. فعندما انتصر الخليفة الموفق على حركة صاحب الزنج ، جاء برأسه إلى بغداد . وقد بلغت عليه نشوة النصر ، فصار يستعرض جيشه في المناطق الحيوية المكتظة بالناس ، فبدأ بسوق الثلاثاء وباب الطاق وسوق يحيى ، ثم سار في دجلة حتى وصل قصر الخلافة. (16)
تشير المصادر التاريخية إلى أن السوق الرئيس كان مبنياً من الطابوق والجص. وكان سقفه من مجموعة عقود متجاورة ، وله باب يعلوه قوس. وكانت الدكاكين أعلى مستوى من ممشى السوق. ولا يزال هذا النمط مستخدماً في بعض أسواق الكاظمية والنجف والسماوة.
تمتاز أسواق الرصافة بالتنظيم والتنسيق والاستقامة نظراً لما اكتسب المخططون لها خبرة من أسواق الكرخ غير المنظمة. وكان المنصور يدعو ضيوفه الأجانب لزيارة أسواق بغداد فيعجبون بها وبما تحويه من بضائع وسلع قادمة من الصين والهند وايران وسوريا ومصر واليمن.
وقد أثارت أسواق الرصافة إعجاب الرحالة مثل ابن جبير وابن بطوطة الذين وصفوا جمالها وحسن تنظيمها. كما وصفها المؤرخون أمثال الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) والاصطخري في (المسالك والممالك) و(الأقاليم) والقلقشندي في (صبح الأعشى) واليعقوبي في (البلدان).
يصف اليعقوبي السوق الكبير الذي تجتمع فيه أصناف التجارات ، ويبدأ من رأس الجسر (ويرجح موقعه هو الذي يشغله حالياً جسر الشهداء) ثم ينقسم إلى أسواق على اليمين والشمال من الجسر. وكانت تباع في هذه الأسواق أنواع المنسوجات والمصنوعات. ويذكر ابن الأثير في (الكامل في التاريخ) أنه في عام ( 292 هـ / 904 م) حدث حريق بالقرب من الجسر احترق جراءه ألف دكان وحانون ومخزن كانت مملوءة بالبضائع. (17)
ومن رحبة الجسر يتفرع سوقان الأول هو سوق الأساكفة ، والثاني سوق الطيب حيث تباع العطور والزهور. وبقربها حوانيت الصيرفة وحوانيت الملابس ، ومنها تمتد سوق الطعام وحوانيت الخبازين والقصابين وغيرهم.
وإلى يمين باب الطاق يوجد سوق الصاغة في بناية فخمة ذات أعمدة خشبية من الصاج عليها غرف مشرفة ، ثم سوق الوراقين (سوق السراي حالياً) الذي لا يبعد كثيراً عن الجسر الأوسط. وهو سوق كبير فيه عادة مجالس العلماء والشعراء.
ويمتد سوق خضير في الطريق المتفرع من الشارع الرئيس باتجاه الشمال (أي ساحة الميدان وباب المعظم حالياً). وكانت تباع فيه طرائف ومصنوعات وتحف الصين النادرة التي تجذب أثرياء بغداد إليها لتزيين قصورهم بها. ومن هذا السوق يتفرع سوق صغير تُباع في الجرار والأواني الفخارية.
وعلى ضفة دجلة المقابلة لسوق خضير كانت تباع أحطاب الوقود (ربما الشواكة الحالية).
أما سوق يحيى الذي كان قرب مرقد أبي حنيفة ، فقد اتخذ اسمه من يحيى بن الوليد ، وقيل يُنسب إلى يحيى بن خالد البرمكي. وكان السوق يقع بين مساكن الوزراء والأمراء والرؤساء والأثرياء. وكانت دكاكين السوق عالية ، وهي سوق تجمع أصنافاً كثيرة كالخبازين وباعة الحلويات .
وعلى امتداد الطريق الصاعد شمالاً من سوق يحيى يقع سوق خالد البرمكي القريب من مشهد أبي حنيفة. وعلى مقربة منه يقع سويق جعفر. وفي الجزء الأسفل من نهر المهدي يقع سوق نصر وهو سوق صغير.
أما سوق الثلاثاء فهو أقدم أسواق جانب الرصافة. وسُمّي بهذا الاسم لأنه كان يُقام يوم الثلاثاء لأهل كولواذى قبل بناء بغداد. وكلواذى اليوم هي الكرادة الشرقية. ولما ازدهرت الرصافة انتعش سوق الثلاثاء تجارياً وتوسع ، حتى صار من أهم محلات بغداد الشرقية المكتظة بالسكان.
وإلى الجنوب من سوق الثلاثاء يقع سوق الرياحين الذي لا يبعد كثيراً عن دار الخلافة. وفي هذا السوق اثنان وعشرون دكاناً ، وبقربه سوق للعطارين فيه ثلاثة وأربعون دكاناً . إضافة إلى ستة عشر دكاناً للصاغة.
واختير سوق الدواب على الضفة اليمنى من نهر موسى بعد اجتياز السور الذي أقامه الخليفة المستعين بالله عام ( 151 هـ / 865 م) ، إذ يقع بعيداً عن المحلات السكنية. وكانت تباع فيه حيوانات الحمل والنقل والحراثة وجر العربات كالخيل والبغال والحمير والجمال. وبجانب سوق الدواب نشأت أسواق تباع فيها مواد وطعام تخص الحيوانات مثل سوق التبن وسوق العلافين.
وفي جانب الرصافة كان هناك سوق يدعى سوق السلاح تباع فيه السيوف والخناجر والسهام والأقواس والرماح والسكاكين الكبيرة. وكان يقع في محلة السلاح.