الديمقراطية المعلّبة .. ثانيةً
عدنان سمير دهيرب
مرة أخرى أعود الى عنوان لمقال نشرته في الزمان يحمل ذات المصطلح الدعائي الذي غير النظام السياسي بالحرب والقوة الخشنة وإستخدام العنف و الصدمات التي ما برحت نتائجها قائمة . مفردة عميقة المعنى براقة ومدهشة في شكلها وآلياتها وقيمها ومبادئها التي لا يمكن تطبيقها عنوة أو فرض واجب التنفيذ في مجتمع عانى كثيراً من الصراعات والنزاعات الدموية و الدمار النفسي والمادي والعبودية لدكتاتوريات قاسية مرعبة في سطوتها و سلوكها أسهمت بنشر بذورها في عقول و نفوس أفراد المجتمع .
إن تحقيق الافكار و دولة القانون أو الدولة الحديثة على الواقع لا يمكن تطبيقها قبل توفر الظروف الموضوعية و البيئة الملائمة لاسيما المتعلقة منها في المناحي السياسية والسسيولوجية , وليس المداهمة العنيفة مع إستمرار ذات التفكير والمنهج و السلوك , لان الديمقراطية (الصورية و الشكلانية قد تؤدي الى أبشع أنواع الأنظمة الدكتاتورية) وفق المفكر الامريكي فريد زكريا .
واذا ما كان الشعب قد عاش خلال العقدين المنصرمين تغييراً في شكل النظام السياسي و آخر في سلوكياته التي أقتحمت العقول والمدارس والجامعات والبيوت وسادت الحرية التي تلامس الفوضى في بيئة مضطربة وتراجع الوعي . فأن ذلك يفضي الى الى إختلال في ثوابت المجتمع الأخلاقية والقيمية والوطنية
الانتشاء بالحرية
ويرى الفيلسوف التونسي ميزري حداد إن وراء الانتشاء بالحرية الفرد بالديمقراطية يقبع شبح ثلاثة مخاطر قاتلة : الأصولية , والفوضى الشاملة و فقدان السيادة الوطنية لمصلحة الاجانب . و ماهو أخطر من الديمقراطية : الفوضى بعد إنهيار الدولة , و ماهو أخطر من الفوضى : الحرب الأهلية , وما هو أخطر من الحرب الأهلية عودة الاستعمار .
وقد شهد العراق مكابدات تلك المراحل و تطبيق خطط تدميرية أخرى نفذت وفق برامج أسهمت بتعميق الانقسامات و دخول عصابات ظلامية تحمل إرثاً من الفتاوى الطائفية عمرها تجاوز الألف عام , و قد قدم الشعب لدحرها تضحيات بشرية ومادية جسيمة , ومازالت تداعياتها قائمة لغاية الآن .
أن الديمقراطية لا تقوم مع أستمرار الجهل و الامية و (أغلال التقديس) والتواكل للزعيم , و إطلاق الشعارات و التصريحات الطائفية , وتقسيم السلطات وفق أسس عرقية و مذهبية و إجراء الانتخاب كل أربعة أعوام لإنتخاب (من ربعنا او جماعتنا) أو من طائفتنا و قوميتنا وعشيرتنا , باستغلال الأغلبية الطائفية تحت غطاء الديمقراطية لا الاغلبية السياسية . والتناوب السلمي للسلطة بين ذات الاحزاب المتطابقة في المنهج والايديولوجيا , والمنافسة ليس في بناء الانسان والوطن وإنما في عمليات النهب المنظم والمحاصصة في توزيع نظام الحكم . فالديمقراطية التي تطبق في الغرب جاءت بعد أثمان باهظة قدمتها المجتمعات و ثلاث قرون من التنوير و الصراعات و الثورات والتجارب المتراكمة . ومختصرها في العقد الاجتماعي لجان جاك روسو (الانسان يتخلى عن إرادته الفردية طواعية لمصلحة الارادة الجماعية المنبثقة عن التصويت الحر للشعب المثقف المستنير . وعندئذ يشعر المواطنون الذين ينطبق عليهم القانون كأنهم هم مؤلفو هذا القانون بالذات أو مشاركون في بلورته). بمعنى أن يسبق التغيير السياسي تغييراً فكرياً أو الأثنين معاً لا يفرض بالقوة وفق السلوك و النظرة الفوقية الأمريكية بضرورة إستخدام القوة لمجتمع لا يفهم غير القوة . وتقسيمه عرقياً ومذهبياً كي يبقى ضعيفاً متعثراً مشغولاً بقضايا داخلية وأزمات تلد أزمات وساسة ونواب تطلق التصريحات الطائفية مثلما حصل خلال شهر واحد من عام 2024 خمس ترندات وطالبات وقانون : الأول إزالة تمثال أبو جعفر المنصور والثاني بادراج (حقائق معركة صفين وفرار عمرو بن العاص عارياً) ضمن المناهج الدراسية والثالث هو الدعوة لأقرار (عيد الغدير) عطلة رسمية والرابع قيام أحد النواب بلعن (الأوائل من الخلفاء الراشدين) والخامس صدور قانون العطل الرسمية لمناسبات دون وطنية لهويات فرعية و لغاء الوطنية الجامعة . ذلك الترويج لم يأت ضمن التنافس لبناء الانساء وتعزيز المواطنة وإنما لدينامية الصراع بين قوى اللاهوت السياسي الطائفي الذي يتسيد المشهد ويظل جمهور تلك الأحزاب يتمسك بذات الاحداث و يش سرديات و مرويات الماضي المترسخة في بنية المجتمع , و إثارتها بين الحين و الاخر , بذريعة حماية المذهب , و إزاحة الاتهامات المتبادلة لأسباب سياسية و إستغلال الجمهور الفاقد للارادة , و إشغاله بأحداث تاريخية , و إلهائه عن قضايا تمس حياته اليومية والمستقبلية . ليظل التفكير الدائري و ليس الفكر النقدي هو السائد في مجتمع و دولة تعيش الديمقراطية المعلبة في الشكل لا المضمون .
دولة مدنية
لذلك يتوجب التخلص من كل ذلك قبل بناء الدولة المدنية الحديثة التي تشكل أساً للديمقراطية و سيادة القانون و المواطنة و العدالة والحرية و المساواة . و الانتخاب على وفق البرنامج و الخطط التي تهدف الى حماية كرامة الانسان وإمكانية تسليم الحكم الى المعارضة , و التنافس في البناء و الارتقاء وحفظ السيادة .