تقول المستشرقة الألمانية : (زيغريد هونكة) في كتابها (شمس العرب تسطع على الغرب) انه في القرون الوسطى كان أي بائع للفحم في بغداد يمتلك مكتبة قد يتجاوز عدد كتبها ما في أوربا قاطبة ويحدثنا التاريخ عن خليفة المسلمين العباسي (المأمون) انه كان يعطي المُترجِم لكتبِ الإغريق واليونان وزنها ذهبا وقيل أنه( خير نديم أو جليس في الأنامِ كتابُ) وقال، وقيل الشيء الكثير حتى بات الأمر غير مستغرب لأن هذه الأمة قد كلفت بالقراءة تكليفا سماويا وأن من أهم أسباب نهوضها وهي ابنةُ الصحراء التي لم يسبق لها أن عُرفت باضطلاعها بالقراءة والكتابة كميزة في تاريخها السابق. التفاتها المفاجئ والقوي نحو القراءة والاستنباط والتأويل والحث على الذهاب بهذا الاتجاه بقوة وقد يسرت الأمور لها كما لم تيسر لباقي الأمم حتى قيل (أن للمجتهد المصيب أجران وللمخطئ أجر) فكان الحث واضحا للمضي باتجاه العمل والتجريب. وليس باتجاه العلوم الدينية والفقهية ذات الخطورة الكبيرة فحسب. بل باتجاه أغلب العلوم المعروفة وغير المعروفة فكان إبن الهيثم مثلا فقيها ورياضيا وكحالا ( أي طبيب عيون ) وعالم بصريات ومهندس ري واحدث في كل هذه المجالات فتوحات صححت مسارات أغلب العلوم التي عمل عليها. والأمثلة كثيرة، ما نود الذهاب إليه تلك الصحبة والألفة التي استطاعت الأمة أن تؤسسها برجالاتها مع الكتاب ومؤسسات إصداره فتطورت صناعة الورق والأحبار والخط وفن الزخارف والرسوم التوضيحية لأجهزة وأدوات مختبريه وبصرية حتى امتلأت المتاحف بتلك الكنوز العلمية والفنية التي أهدتها أُمتنا إلى العالم دون منّة وبتواضع الكبار أما الآن فالإحصائيات الخاصة بالمنظمات الدولية التي تعتني بهذا الشأن تشير إلى تدني مستوى القراءة بشكل لا نظير له. ولا عجب لذلك إذا كنا الآن نحتل المراتب المتقدمة في الفساد والرِشى فلا بد أن نكون في آخر سلمة من سلالم الاهتمام بالقراءة والكتابة العلميين والسبب بلا شك يعود إلى ارتفاع مستوى الأمية كما أن تهريء منظومات التعليم والتربية والإعلام تمثل أسباب وجيهة أخرى. ويعتبر النشر العلمي على نحو خاص الأكثر إخفاقا وتدنيا مقارنة مع اتجاهات النشر الأخرى عامة. وقد اقتصر النشر بالاتجاهات العلمية فقط على ما يترجم عن اللغات الأخرى وهذا المجال غالبا ما يجد عزوفا من قبل دور النشر ومؤسساتها الأهلية فهو تجاريا مشروع خاسر قياساً لما تروج له من كتب تجتر الماضي وتفسيراته بلغة انشائية وقطعية الدلالة تتجنب التحكيك والتمحيص ولا تحثُ عليه، لذلك بقيت بعض المؤسسات الحكومية على ملل أو خجل وحدها التي تهتم بنشره بلغة علمية فيها من الرصانة الاكاديمية والتخصصية الشيء الكثير، واغلبه يذهب لدعم طلبة الجامعات والدراسات العليا أما غالبية الناس فنجد لديهم عزوف بشع تجاهه لما في المستوى من تفاوت، وحتى المجلات والصحف لاتجد فيها ولو عاموداً واحداً يهتم بهذه القضايا ما عدا بعض الأخبار الصحفية ومثل هذا الوضع يؤشر بشكل واضح إلى وجود أزمة في انتشار العلم والعقلية العلمية وتدني مستوى البحث العلمي في وطننا العربي وهذا الحديث لا يوجه أصابع الاتهام فقط لدور النشر بل هو يدين المنهج المدرسي والمعلم في المدرسة ويؤشر إلى الضعف وعدم المبالاة المبالغ بهما فيما تتركه نوعية الثقافة من أثر معرفي في قناعات وسلوكيات غالبة الجمهور، والذي يؤثر على مستوى إعداده الأكاديمي والثقافي فالنتائج التي نحصدها الآن هي ابنة تراكم مرعب من عدم الاهتمام وعدم الإخلاص والاستعداد لتحمل مسؤولية إنتاج جيل قادر على أن يصمد أمام تحديات العصر التي بات العلم أهم مظهر من مظاهره.
وكذلك كل وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والسياسة العامة بتوجهاتها السياسية التي تقود. والتي أغفلت عن قصد أو جهالة ما لأهمية إشاعة الثقافة العلمية وتحبيبها للناس وخلق مستوى من الألفة بين منطلقاتها النظرية وما تنتجه من معطيات تقنية نراها بحكم الواقع مطروحة في الاسواق بعد عرضها بشكل مبسط والذي يرتبط بتفاصيل حياتنا اليومية والتي تشعرنا بان الاهتمام بتبني هكذا مواضيع والتعامل معها له ارتباط وثيق بتحسن مستوانا ألمعاشي ورفاهيتنا وقدرتنا على التطاول بأعناقها بين من يتطاول اليوم من الامم بما لديه من منجز علمي وحضاري باهر يرفد العالم كل ساعة بما يخدم البشرية.